وَأما الآخر فَإِنَّهُ إِذا عرضت لَهُ شَهْوَة اقتحم فِيهَا وَأَن كَانَ هُنَاكَ ألف عَار، وَلَا يلْتَفت إِلَى مَا يرغب فِيهِ من المناصب الْعَالِيَة، أَو يرهب مِنْهُ من الذل والهوان، وَرُبمَا يَبْدُو للرجل الغيور منكح شهي، وَتَدْعُو إِلَيْهِ نَفسه أَشد دَعْوَة، فَلَا يركن إِلَيْهَا لخاطر هجس من قلبه من قبيل الْغيرَة، وَرُبمَا يصبر على الْجُوع والعري، وَلَا يسْأَل أحدا شَيْء لما جبل فِيهِ من الأنفة، وَرُبمَا يَبْدُو للرجل الْحَرِيص منكح شهي أَو مطعم هني، وَيعلم فيهمَا ضَرَرا عَظِيما، إِمَّا من جِهَة الطِّبّ، أَو من جِهَة الْحِكْمَة العملية، أَو من جِهَة سطوة بعض بني آدم فيخاف، ويرتعش، ويرعوى، ثمَّ يعميه الْهوى، فيقتحم فِي الورطة على علم، وَرُبمَا يدْرك الْإِنْسَان من نَفسه نزوعا إِلَى جِهَتَيْنِ متخالفتين، ثمَّ يغلب دَاعِيَة على دَاعِيَة، ويتكرر مِنْهُ أَفعَال متشابهة على هَذَا النسق حَتَّى يضْرب بِهِ الْمثل، إِمَّا فِي اتِّبَاع الْهوى وقله الْحفاظ، وَإِمَّا فِي ضبط الْهوى وَقُوَّة المسكة، وَرجل ثَالِث يغلب عقله على الْقلب وَالنَّفس كَالرّجلِ الْمُؤمن حق الْإِيمَان انْقَلب حبه وبغضه وشهوته إِلَى مَا يَأْمر بِهِ الشَّرْع وَإِلَى مَا عرف من الشَّرْع جَوَازه بل اسْتِحْبَابه، فَلَا يَبْتَغِي أبدا عَن حكم الشَّرْع حولا، وَرجل رَابِع يغلب عَلَيْهِ الرَّسْم وَطلب الجاه وَنفي الْعَار عَن نَفسه، فَهُوَ يَكْظِم الغيظ، ويصبر على مرَارَة الشتم مَعَ قُوَّة غَضَبه وَشدَّة

جرأته، وَيتْرك شهواته مَعَ قُوَّة طَبِيعَته، وَلِئَلَّا يُقَال فِيهِ مَا لَا يُحِبهُ، لِئَلَّا ينْسب إِلَى الشَّيْء الْقَبِيح، أَو ليجد مَا يَطْلُبهُ من رفْعَة الجاه وَغَيره، فالرجل الأول يشبه بالسباع، وَالثَّانِي بالبهائم، وَالثَّالِث بِالْمَلَائِكَةِ. وَالرَّابِع يُقَال لَهُ: صَاحب الْمُرُوءَة وَصَاحب معالي الهمم، لم يجد من عرض النَّاس أَفْرَاد يغلب فِيهَا قوتان مَعًا على الثَّلَاثَة، وَيكون أَمرهمَا فِيمَا بَينهمَا متشابها ينَال هَذَا من ذَلِك من هَذَا أُخْرَى، فَإِذا أَرَادَ المستبصر ضبط أَحْوَالهم وَالتَّعْبِير عَمَّا هم فِيهِ اضْطر إِلَى إِثْبَات اللطائف الثَّلَاث.

وَأما اتِّفَاق الْعُقَلَاء فَاعْلَم أَن جَمِيع من اعتنى بتهذيب النَّفس الناطقة من أهل الْملَل والنحل اتَّفقُوا على إِثْبَات هَذِه الثَّلَاث أَو على بَيَان مقامات وأحوال تتَعَلَّق بِالثلَاثِ، فالفيلسوف فِي حكمته العملية يسميها نفسا ملكية، ونفسا سبعية، ونفسا بهيمية، وَفِي هَذِه التَّسْمِيَة نوع من التسامح، فَسمى الْعقل بِالنَّفسِ الملكية تَسْمِيَة بِأَفْضَل أفرادها، وسمى الْقلب بِالنَّفسِ السبعية تَسْمِيَة لَهُ بأشهر صافه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015