وَاعْلَم أَن النِّيَّة روح، وَالْعِبَادَة جَسَد، وَلَا حَيَاة للجسد بِدُونِ روح، وَالروح لَهَا حَيَاة بعد مُفَارقَة الْبدن، وَلَكِن لَا يظْهر آثَار الْحَيَاة كَامِلَة بِدُونِهِ، وَلذَلِك قَالَ الله تَعَالَى:
{لن ينَال الله لحومها وَلَا دماؤها وَلَكِن يَنَالهُ التَّقْوَى مِنْكُم} .
وَقَالَ رَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ " وَشبه النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كثير من الْمَوَاضِع من صدقت نِيَّته - وَلم يتَمَكَّن من الْعَمَل لمَانع - بِمن عمل ذَلِك الْعَمَل كالمسافر وَالْمَرِيض لَا يستطيعان وردا واظبا عَلَيْهِ؛ فَيكْتب لَهما وكصادق الْعَزْم فِي الانفاق، وَهُوَ مملق يكْتب كَأَنَّهُ أنْفق وأعني بِالنِّيَّةِ الْمَعْنى الْبَاعِث على الْعَمَل من التَّصْدِيق بِمَا أخبر بِهِ الله على أَلْسِنَة الرُّسُل من ثَوَاب الْمُطِيع وعقاب العَاصِي، أَو حب امْتِثَال حكم الله فِيمَا أَمر، وَنهى، وَلذَلِك وَجب أَن ينْهَى الشَّارِع عَن الرِّيَاء والسمعة، وَيبين مساويهما أصرح مَا يكون، فَمن ذَلِك قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن أول النَّاس يقْضى عَلَيْهِم يَوْم الْقِيَامَة ثَلَاثَة: رجل قتل فِي الْجِهَاد ليقال لَهُ: وَهُوَ رجل جريء، وَرجل تعلم الْعلم وَعلمه ليقال: هُوَ عَالم. وَرجل أنْفق فِي وُجُوه الْخَيْر ليقال هُوَ جواد، فَيُؤْمَر بهم، فيسحبون على وُجُوههم إِلَى النَّار "، قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن الله تَعَالَى: " أَنا أغْنى الشُّرَكَاء عَن الشّرك، من عمل عملا أشرك فِيهِ غَيْرِي تركته وشركه ".
أما حَدِيث أبي ذَر رَضِي الله عَنهُ " قيل: يَا رَسُول الله أَرَأَيْت الرجل يعْمل الْعَمَل من الْخَيْر وَيَحْمَدهُ النَّاس عَلَيْهِ؟ قَالَ: تِلْكَ عَاجل بشرى الْمُؤمن " فَمَعْنَاه أَن يعْمل الْعَمَل لَا يقْصد بِهِ إِلَّا وَجه الله، فَينزل الْقبُول
إِلَى الأَرْض، فَيُحِبهُ النَّاس، وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ " قلت: يَا رَسُول الله بَينا أَنا فِي بَيْتِي فِي مصلاي إِذْ دخل عَليّ رجل، فأعجبتني الْحَال الَّتِي رَآنِي عَلَيْهَا، قَالَ: رَحِمك الله يَا أَبَا هُرَيْرَة، لَك أَجْرَانِ، أجر السِّرّ، ووأجر الْعَلَانِيَة " ممعناه أَن يكون الْإِعْجَاب مَغْلُوبًا لَا يبْعَث بِمُجَرَّدِهِ على الْعَمَل، و" أجر السِّرّ " أجر الاخلاص الَّذِي يتَحَقَّق فِي السِّرّ، و" أجر الْعَلَانِيَة " أجر إعلاء دين الله وإشاعة السّنة الراشدة.
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" خياركم أحاسنكم أَخْلَاقًا " اقول: لما كَانَ بَين السماحة وَالْعَدَالَة نوع من التَّعَارُض كَمَا نبهنا عَلَيْهِ، وَكَانَ بِنَاء عُلُوم الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام على رِعَايَة المصلحتين وَإِقَامَة نظام الدَّاريْنِ، وَأَن يجمع بَين الْمصَالح مَا أمكن وَجب أَلا يعين فِي النواميس للسماحة إِلَّا أَشْيَاء تشتبك مَعَ الْعَدَالَة، وتؤيدها وتنبه عَلَيْهَا، فَنزل الْأَمر إِلَى حسن الْخلق وَهُوَ عبارَة عَن مَجْمُوع أُمُور من بَاب السماحة وَالْعَدَالَة، فَإِنَّهُ يتَنَاوَل الْجُود وَالْعَفو عَمَّن ظلم والتواضع وَترك الْحَسَد والحقد وَالْغَضَب، وكل ذَلِك من السماحة، ويتناول التودد إِلَى النَّاس وصلَة الرَّحِم وَحسن الصُّحْبَة مَعَ النَّاس ومواساة المحاويج، وَهِي من بَاب الْعَدَالَة، والفصل الأول يعْتَمد على الثَّانِي، وَالثَّانِي لَا يتم إِلَّا بِالْأولِ، وَذَلِكَ فِي الرَّحْمَة المرعية من النواميس الإلهية.