وَالثَّالِث: أَن تُؤْخَذ من الْأَمْوَال النافعة الَّتِي ينالها النَّاس من غير تَعب كدفائن الْجَاهِلِيَّة وجواهر العاديين؛ فَإِنَّهَا بِمَنْزِلَة المجان يخف عَلَيْهِم الانفاق مِنْهُ.
وَالرَّابِع: أَن تلْزم ضَرَائِب على رُءُوس الكاسبين فانهم عَامَّة النَّاس وَأَكْثَرهم، إِذا جبى من كل مِنْهُم شَيْء يسير كَانَ خَفِيفا عَلَيْهِم عَظِيم الْخطر فِي نَفسه. وَلما كَانَ دوران التِّجَارَات من الْبلدَانِ النائية وحصاد الزروع وجبي الثمرات فِي كل سنة، وَهِي أعظم أَنْوَاع الزَّكَاة قدر الْحول لَهَا، وَلِأَنَّهَا تجمع فصولا مُخْتَلفَة الطبائع وَهِي مَظَنَّة النَّمَاء، وَهِي مُدَّة صَالِحَة لمثل هَذِه التقديرات.
والآسهل والأوفق فِي بِالْمَصْلَحَةِ أَلا تجْعَل الزَّكَاة إِلَّا من جنس تِلْكَ الْأَمْوَال فتؤخذ من كل صرمة من الْإِبِل نَاقَة، وَمن كل قطيع من الْبَقَرَة بقرة،
وَمن كل ثلة من الْغنم شاه مثلا، ثمَّ وَجب أَن يعرف كل وَاحِد من هَذِه بالمثال وَالْقِسْمَة والاستقراء ليتَّخذ ذَلِك ذَرِيعَة إِلَى معرفَة الْحُدُود الجامعة الْمَانِعَة، فالماشية فِي أَكثر الْبلدَانِ الْإِبِل. الْبَقر. الْغنم، ويجمعها إسم الْأَنْعَام، وَأما الْخَيل فَلَا تكْثر صرمها وَلَا تناسل نَسْلًا وافرا إِلَّا فِي أقطار يسيرَة كتركستان، والزروع عبارَة عَن الأقوات، وَالثِّمَار الْبَاقِيَة سنة كَامِلَة، وَمَا دون ذَلِك يُسمى بالخضروات، وَالتِّجَارَة عبارَة عَن أَن يَشْتَرِي شَيْئا يُرِيد أَن يربح فِيهِ إِذْ من ملك بهبه أَو مِيرَاث وَاتفقَ أَن بَاعه فربح لَا يُسمى تَاجِرًا، والكنز عبارَة عَن مِقْدَار كثير من الذَّهَب وَالْفِضَّة مَحْفُوظ مُدَّة طَوِيلَة، وَمثل عشرَة دَرَاهِم وَعشْرين درهما لَا يُسمى كنزا، وَإِن بَقِي سِنِين، وَسَائِر الْأَمْتِعَة لَا تسمى كنزا، وَإِن كثرت، وَالَّذِي يغدوا وَيروح وَلَا يكون مُسْتَقرًّا لَا يُسمى كنزا فَهَذِهِ الْمُقدمَات تجْرِي مجْرى الْأُصُول الْمسلمَة فِي بَاب الزَّكَاة، ثمَّ أَرَادَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يضْبط الْمُبْهم مِنْهَا بحدود مَعْرُوفَة عِنْد الْعَرَب مستعملة عِنْدهم فِي كل بَاب.
ثمَّ مست الْحَاجة إِلَى بَيَان فَضَائِل الْإِنْفَاق وَالتَّرْغِيب فِيهِ، ليَكُون برغبة وسخاوة نفس، وَهِي روح الزَّكَاة. وَبهَا قوام الْمصلحَة الراجعة إِلَى تَهْذِيب النَّفس، وَإِلَى بَيَان مساوى الامساك، والتزهيد فِيهِ، وَإِذا الشُّح هُوَ مبدأ تضرر مَانع الزَّكَاة، وَذَلِكَ إِمَّا فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ قَول الْملك: " اللَّهُمَّ أعْط منفقا خلفا، وَالْآخر. اللَّهُمَّ اعط ممسكا تلفا.