لما كَانَ من تَمام التشريع - أَن يبين لَهُم الرُّخص عِنْد الْأَعْذَار، ليَأْتِي المكلفون من الطَّاعَة بِمَا يَسْتَطِيعُونَ، وَيكون قدر ذَلِك مفوضا إِلَى الشَّارِع، ليراعي فِيهِ التَّوَسُّط، لَا إِلَيْهِم، فيفرطوا، أَو يفرطوا - اعتنى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بضبط الرُّخص والأعذار.
وَمن أصُول الرُّخص أَن ينظر إِلَى اصل الطَّاعَة حَسْبَمَا تَأمر بِهِ حِكْمَة الْبر، فيعض عَلَيْهَا فِي بالنواجد على كل حَال، وَينظر إِلَى حُدُود وضوابط شرعها الشَّارِع، ليتيسر لَهُم الْأَخْذ بِالْبرِّ، فَيصْرف فِيهَا إِسْقَاطًا وإبدالا حَسْبَمَا تُؤدِّي إِلَيْهِ الضَّرُورَة.
فَمن الْأَعْذَار السّفر، وَفِيه من الْحَرج مَا لَا يحْتَاج إِلَى بَيَان، فشرع رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ رخصا.
مِنْهَا الْقصر، فأبقى أصل أعداد الرَّكْعَات - وَهِي إِحْدَى عشرَة رَكْعَة، وَأسْقط مَا زيد بِشَرْط الطُّمَأْنِينَة والحضر، وَلما كَانَ هَذَا الْعدَد فِيهِ شَائِبَة الْعَزِيمَة لم يكن من حَقه أَن يقدر بِقدر الضَّرُورَة، ويضيق فِي ترخيصه كل التَّضْيِيق، فَلذَلِك بَين رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن شَرط الْخَوْف فِي الْآيَة لبَيَان الْفَائِدَة، وَلَا مَفْهُوم لَهُ، فَقَالَ: " صَدَقَة تصدق الله بهَا عَلَيْكُم فاقبلوا صَدَقَة " وَالصَّدَََقَة لَا يضيق فِيهَا أهل المروءات، وَلذَلِك أَيْضا واظب رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الْقصر، وَإِن جوز الاتمام، فِي الْجُمْلَة فَهُوَ سنة مُؤَكدَة، وَلَا اخْتِلَاف بيم مَا روى من جَوَاز الْإِتْمَام،
وَأَن الرَّكْعَتَيْنِ فِي السّفر تَمام غير قصر لِأَنَّهُ يُمكن أَن يكون الْوَاجِب الْأَصْلِيّ هُوَ رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ ذَلِك يكون الاتمام مجزئا بِالْأولَى - كَالْمَرِيضِ. وَالْعَبْد - يصليان الْجُمُعَة فَيسْقط عَنْهُم الظّهْر، أَو كَالَّذي وَجب عَلَيْهِ بنت مَخَاض فَتصدق بِالْكُلِّ، وَلذَلِك كَانَ من حَقه أَنه إِذا صَحَّ على الْمُكَلف إِطْلَاق اسْم الْمُسَافِر جَازَ لَهُ الْقصر إِلَى أَن يَزُول عَنهُ هَذَا الِاسْم بِالْكُلِّيَّةِ، لَا ينظر فِي ذَلِك إِلَى وجود الْحَرج، وَلَا إِلَى عدم الْقُدْرَة على الاتمام لِأَنَّهُ وَظِيفَة من هَذَا شَأْنه ابْتِدَاء وَهُوَ قَول ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ: سنّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاة السّفر رَكْعَتَيْنِ، وهما تَمام غير قصر.
وَاعْلَم أَن السّفر وَالْإِقَامَة وَالزِّنَا وَالسَّرِقَة، وَسَائِر مَا أدَار الشَّارِع عَلَيْهِ الحكم أُمُور يستعملها أهل الْعرف فِي مظانها، ويعرفون مَعَانِيهَا، وَلَا ينَال حَده الْجَامِع الْمَانِع إِلَّا بِضَرْب من الِاجْتِهَاد والتأمل، وَمن المهم معرفَة طَرِيق الِاجْتِهَاد، فَنحْن نعلم نموذجا مِنْهَا فِي