فِيهَا الْمَلَائِكَة، ويعرض فِيهَا على الله أَعْمَالهم، ويستجاب دعاؤهم، وَهِي كالأمر الْمُسلم عِنْد جُمْهُور أهل التلقي من الْمَلأ الْأَعْلَى، لَكِن وَقت نصف اللَّيْل لَا يُمكن تَكْلِيف الْجُمْهُور بِهِ - كَمَا لَا يخفى - فَكَانَت أَوْقَات الصَّلَاة فِي الأَصْل ثَلَاثَة: الْفجْر والعشى وغسق اللَّيْل، وَهُوَ قَوْله تبَارك وَتَعَالَى:
{أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس إِلَى غسق اللَّيْل وَقُرْآن الْفجْر إِن قُرْآن الْفجْر كَانَ مشهودا}
وَإِنَّمَا قَالَ: (إِلَى غسق اللَّيْل) لِأَن صَلَاة العشى ممتدة إِلَيْهِ حكما - لعدم وجود الْفَصْل - وَلذَلِك جَازَ عِنْد الضَّرُورَة الْجمع بَين الظّهْر وَالْعصر وَبَين الْمغرب وَالْعشَاء - فَهَذَا أصل.
وَلَا يجوز أَن يكون الْفَصْل بَين كل صَلَاتَيْنِ كثيرا جدا، فَيفوت معنى الْمُحَافظَة، وينسى مَا كَسبه أول مرّة - وَلَا قَلِيلا جدا - فَلَا يتفرغون لابتغاء معاشهم، وَلَا يجوز أَن يضْرب فِي ذَلِك إِلَّا حدا ظَاهرا محسوسا يتبينه الْخَاصَّة والعامة، وَهُوَ كَثْرَة مَا للجزء الْمُسْتَعْمل عِنْد الْعَرَب والعجم - فِي بَاب تَقْدِير الْأَوْقَات، وَلَيْسَت بِالْكَثْرَةِ المفرطة - وَلَا يصلح لهَذَا إِلَّا ربع النَّهَار فَإِنَّهُ ثَلَاث سَاعَات، وتجزئه اللَّيْل وَالنَّهَار إِلَى اثْنَتَيْ عشرَة سَاعَة أمرأ جمع عَلَيْهِ أهل الأقاليم الصَّالِحَة، وَكَانَ أهل الزِّرَاعَة وَالتِّجَارَة والصناعة وَغَيرهم يعتادون غَالِبا أَن يتفرغوا لأشغالهم من البكرة إِلَى الهاجرة، فَإِنَّهُ وَقت ابْتِغَاء الرزق وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{وَجَعَلنَا النَّهَار معاشا}
وَقَوله تَعَالَى:
{لتبتغوا من فَضله}
واتصاف كثير من الأشغال ينجر إِلَى مُدَّة طَوِيلَة، وَيكون التهيؤ للصَّلَاة والتفرغ لَهَا من النَّاس أجمعهم فِي أثْنَاء ذَلِك حرجا عَظِيما، فَلذَلِك أسقط الشَّارِع الضُّحَى، وَرغب فِيهَا ترغيبا عَظِيما من غير إِيجَاب، فَوَجَبَ أَن تشتق صَلَاة العشى إِلَى صَلَاتَيْنِ بَينهمَا نَحْو ربع النَّهَار وهما الظّهْر وَالْعصر، وغسق اللَّيْل إِلَى صَلَاتَيْنِ بَينهمَا نَحْو من ذَلِك وهما الْمغرب وَالْعشَاء، وَوَجَب أَلا يرخص فِي الْجمع بَين كل من شقي الْوَقْتَيْنِ إِلَّا عِنْد ضَرُورَة لَا يجد مِنْهَا بدا، وَإِلَّا لبطلت الْمصلحَة الْمُعْتَبرَة فِي تعْيين الْأَوْقَات - وَهَذَا أصل آخر
وَكَانَ جُمْهُور أهل الأقاليم الصَّالِحَة والأمزجة المعتدلة الَّذين هم المقصودون بِالذَّاتِ فِي الشَّرَائِع لَا يزالون متيقظين مترددين فِي حوائجهم من وَقت الْأَسْفَار إِلَى غسق اللَّيْل، وَكَانَ أَحَق مَا يُؤدى فِيهِ الصَّلَاة وَقت خلو النَّفس عَن ألوان الأشغال المعاشية المنسية ذكر الله، ليصادف قلبا فَارغًا، فَتمكن مِنْهُ وَيكون أَشد تَأْثِيرا فِيهِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: