وَاخْتِلَاف الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فِي ذَلِك منشؤه الاستقراء والتقريب.
واستفتت حمْنَة فِي الِاسْتِحَاضَة فَأمرهَا بالكرسف والتلجم وَخَيرهَا بَين أَمريْن الخ.
أَقُول الأَصْل فِي ذَلِك أَنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رأى أَن الِاسْتِحَاضَة لَيست من الْأُمُور الصحية وَترك الصَّلَاة فِيهَا يُؤَدِّي إِلَى إهمالها مُدَّة مديدة أَرَادَ أَن يحملهَا على الْأَمر الْمَعْرُوف عِنْدهم فَبَدَا وَجْهَان.
أَحدهمَا أَنَّهَا عرق أَي دَاء خَفِي المأخذ - وَلَيْسَت حَيْضَة بِمَنْزِلَة الرعاف فَردهَا إِلَى مَا كَانَ فِي الصِّحَّة من حَيْضهَا وطهرها فِي كل شهر، وَلَا بُد حِينَئِذٍ من تميز الْحَيْضَة عَن غَيرهَا، إِمَّا باللون فالأقوى كالأسود للْحيض أَو بأيامها الْمَعْرُوفَة عِنْدهَا.
وَالثَّانِي أَنَّهَا حَيْضَة فَاسِدَة؛ فلكونها حَيْضَة يَنْبَغِي أَن تُؤمر بِالْغسْلِ عِنْد كل صَلَاة، وَإِن تعذر فَعِنْدَ كل صَلَاتَيْنِ، ولكونها فَاسِدَة لم تمنع الصَّلَاة - وَالْحكمَة فِي الكرسف والتلجم - أَن يلْحق الدَّم بِمَا اسْتَقر فِي مَكَانَهُ وَلَا يعدوه، وَلِئَلَّا يُصِيب بدنهَا وثيابها، وَأفْتى جُمْهُور الْفُقَهَاء بِالْأولِ إِلَّا عِنْد تعذره
لما كَانَ تَعْظِيم شَعَائِر الله وَاجِبا - وَمن الشعائر الله الصَّلَاة والكعبة وَالْقُرْآن - وَكَانَ أعظم التَّعْظِيم أَلا يقرب مِنْهُ الْإِنْسَان إِلَّا بِطَهَارَة كَامِلَة، وتنبه النَّفس بِفعل مُسْتَأْنف وَجب أَلا يقربهَا إِلَّا متطهر، وَلم يشْتَرط
الْوضُوء لقِرَاءَة الْقُرْآن لِأَن الْتِزَام الْوضُوء عِنْد كل قِرَاءَة يخل فِي حفظ الْقُرْآن وتلقيه، وَلَا بُد من فتح هَذَا الْبَاب وَالتَّرْغِيب فِيهِ وَالتَّخْفِيف على من أَرَادَ حفظه، وَوَجَب أَن يُؤَكد الْأَمر فِي الْحَدث الْأَكْبَر، فَلَا يجوز نفس الْقِرَاءَة أَيْضا - وَلَا أَن يدْخل الْمَسْجِد جنب أَو حَائِض - لِأَن الْمَسْجِد مُهَيَّأ للصَّلَاة وَالذكر، وَهُوَ من شَعَائِر الْإِسْلَام ونموذج الْكَعْبَة.