كَمَا نقيت الثَّوْب الْأَبْيَض من الدنس " والحلول بالمواضع المتبركة وَنَحْو ذَلِك، لَكِن الَّذِي يصلح أَن يُخَاطب بِهِ جَمَاهِير النَّاس مَا يكون منضبطا متيسرا لَهُم كل حِين وكل مَكَان. وَالَّذِي يحس أَثَره بَادِي الرَّأْي، وَالَّذِي جرى عَلَيْهِ طوائف الْأُمَم.
وأصل الْوضُوء غسل الْأَطْرَاف، فضبط الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ - إِلَى الْمرْفقين - لِأَن دون ذَلِك لَا يحس أَثَره، وَالرّجلَيْنِ - إِلَى الْكَعْبَيْنِ - لِأَن دون ذَلِك لَيْسَ بعضو تَامّ، وَجعل وظيفه الرَّأْس الْمسْح لِأَن غسله نوع من الْحَرج.
وأصل الْغسْل نعميم الْبدن بِالْغسْلِ.
وأصل مُوجب الْوضُوء الْخَارِج من السَّبِيلَيْنِ وَمَا سوى ذَلِك مَحْمُول عَلَيْهِ
وأصل مُوجب الْغسْل الْجِمَاع وَالْحيض، وَكَأن هذَيْن الْأَمريْنِ كَانَا مُسلمين فِي الْعَرَب قبل النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأما القسمان الْآخرَانِ من الطَّهَارَة فمأخوذان من الارتفاقات فَإِنَّهُمَا من مُقْتَضى أصل طبيعة الْإِنْسَان لَا يَنْفَكّ عَنْهُمَا قوم وَلَا مِلَّة، والشارع اعْتمد فِي ذَلِك على مَا عِنْد الْعَرَب القح من الرَّفَاهِيَة المتوسطة كَمَا اعْتمد عَلَيْهِ فِي سَائِر مَا ضبط من الارتفاقات فَلم يزدْ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على تعْيين الْآدَاب وتمييز الْمُشكل وَتَقْدِير الْمُبْهم.
قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الطّهُور شطر الْإِيمَان ".
أَقُول: المُرَاد بِالْإِيمَان هَهُنَا هيأة نفسانية مركبة من نور الطَّهَارَة والإخبات، وَالْإِحْسَان أوضح مِنْهُ فِي هَذَا الْمَعْنى، وَلَا شكّ أَن الطّهُور شطره.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من تَوَضَّأ فَأحْسن الْوضُوء خرجت خطاياه من جسده حَتَّى تخرج من أَظْفَاره " أَقُول: النَّظَافَة المؤثرة فِي جذر النَّفس، تقدس النَّفس، وتلحقها بِالْمَلَائِكَةِ، وتنسى كثيرا من الْحَالَات الدنسية فَجعلت خاصيتها خاصية للْوُضُوء الَّذِي هُوَ شبحها ومظنتها وعنوانها.