وَفِي الْبَحْر الرَّائِق عَن أبي اللَّيْث قَالَ: سُئِلَ أَبُو نصر عَن مَسْأَلَة وَردت عَلَيْهِ مَا تَقول رَحِمك الله وَقعت عنْدك كتب أَرْبَعَة، كتاب إِبْرَاهِيم بن رستم، وأدب القَاضِي من الْخصاف، وَكتاب الْمُجَرّد، وَكتاب النَّوَادِر من جِهَة هِشَام هَل يجوز لنا أَن نفتي مِنْهَا أَولا، وَهَذِه الْكتب محمودة عنْدك؟ فَقَالَ مَا صَحَّ عَن أَصْحَابنَا فَذَلِك علم مَحْبُوب مَرْغُوب بِهِ مرضِي عَنهُ، وَأما الْفتيا فَإِنِّي لَا أرى لأحد أَن يُفْتِي بِشَيْء لَا يفهمهُ، وَلَا يحمل أثقال النَّاس، فَإِن كَانَت مسَائِل قد اشتهرت، وَظَهَرت، وانجلت عَن أَصْحَابنَا رَجَوْت أَن يسع لي الِاعْتِمَاد عَلَيْهَا، وَفِيه أَيْضا لَو احتجتم أَو أغتاب فَظن أَنه يفطره، ثمَّ أكل إِن لم يستفت فَقِيها وَلَا بلغَة الْخَبَر، فَعَلَيهِ الْكَفَّارَة لِأَنَّهُ مُجَرّد جهل، وَأَنه لَيْسَ بِعُذْر فِي دَار الْإِسْلَام، وَإِن استفتى فَقِيها، فأفتاه لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ لِأَن الْعَاميّ يجب عَلَيْهِ تَقْلِيد الْعَالم إِذا كَانَ يعْتَمد على فتواه، فَكَانَ مَعْذُورًا فِيمَا صنع، وَإِن كَانَ الْمُفْتِي مخطئا فِيمَا أفتى، وَإِن لم يستفت وَلَكِن بلغه الْخَبَر وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أفطر الحاجم والمحجوم " وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: " الْغَيْبَة تفطر الصَّائِم " وَلم يعرف النّسخ، وَلَا تَأْوِيله لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ عِنْدهمَا لِأَن ظَاهر الحَدِيث وَاجِب الْعَمَل بِهِ خلافًا لأبي يُوسُف لِأَنَّهُ لَيْسَ للعامي الْعَمَل بِالْحَدِيثِ لعدم علمه بالناسخ والمنسوخ، وَلَو لمس امْرَأَة أَو قبلهَا بِشَهْوَة أَو أكتحل " فَظن أَن ذَلِك يفْطر، ثمَّ أفطر فَعَلَيهِ الْكَفَّارَة إِلَّا إِذا أستفتى فَقِيها، فأفتاه بِالْفطرِ، أَو بلغه خبر فِيهِ، وَلَو نوى الصَّوْم قبل الزَّوَال، ثمَّ أفطر لم يلْزمه الْكَفَّارَة عِنْد أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ خلافًا
لَهما كَذَا فِي الْمُحِيط. وَقد علم من هَذَا أَن مَذْهَب الْعَاميّ فَتْوَى مفتية، وَفِيه أَيْضا فِي بَاب قَضَاء الْفَوَائِت إِن كَانَ عاميا لَيْسَ لَهُ مَذْهَب معِين فمذهبه فَتْوَى مفتية كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، فَإِن أفتاه حَنَفِيّ أعَاد الْعَصْر وَالْمغْرب، وَإِن أفتاه شَافِعِيّ، فَلَا يعيدهما وَلَا عِبْرَة بِرَأْيهِ وَإِن لم يستفت أحدا، أَو صَادف الصِّحَّة على مَذْهَب مُجْتَهد أَجزَأَهُ وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ، قَالَ ابْن الصّلاح: من وجد من الشَّافِعِيَّة حَدِيثا يُخَالف مذْهبه نظر أَن كملت لَهُ آلَة الِاجْتِهَاد مُطلقًا، أَو فِي ذَلِك الْبَاب، أَو الْمَسْأَلَة، كَانَ لَهُ الِاسْتِقْلَال بِالْعَمَلِ بِهِ، وَإِن لم يكمل وشق مُخَالفَة الحَدِيث بعد أَن يبْحَث، فَلم يجد للمخالفة جَوَابا شافعيا عَنهُ - فَلهُ الْعَمَل بِهِ إِن كَانَ عمل بِهِ إِمَام مُسْتَقل غير الشَّافِعِي، وَيكون هَذَا عذرا لَهُ فِي ترك مَذْهَب أَمَامه هَهُنَا، وَحسنه النَّوَوِيّ وَقَررهُ.
وَمِنْهَا أَن أَكثر صور الِاخْتِلَاف بَين الْفُقَهَاء لَا سِيمَا فِي الْمسَائِل الَّتِي ظهر فِيهَا أَقْوَال الصَّحَابَة فِي الْجَانِبَيْنِ كتكبيرات التَّشْرِيق، وتكبيرات الْعِيدَيْنِ، وَنِكَاح الْمحرم، وَتشهد ابْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود، والاخفاء بالبسملة وبآمين والاشفاع والايتار فِي الاقامة وَنَحْو ذَلِك إِنَّمَا هُوَ فِي تَرْجِيح أحد الْقَوْلَيْنِ. وَكَانَ السّلف لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أصل المشروعية، وَإِنَّمَا كَانَ خلافهم فِي أولى الْأَمريْنِ وَنَظره اخْتِلَاف الْقُرَّاء فِي وُجُوه الْقِرَاءَة.
وَقد عللوا كثيرا من هَذَا الْبَاب بِأَن الصَّحَابَة مُخْتَلفُونَ وَأَنَّهُمْ جَمِيعًا على الْهدى،