قَالَ الْقَاسِم: إِنَّكُم تسْأَلُون عَن أَشْيَاء مَا كُنَّا نسْأَل عَنْهَا وتنقرون عَن أَشْيَاء مَا كُنَّا ننقر عَنْهَا. تسالون عَن أَشْيَاء مَا أَدْرِي مَا هِيَ، وَلَو علمناها مَا حل لنا أَن نكتمها. عَن عمر بن إِسْحَاق قَالَ: لمن أدْركْت من أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكثر مِمَّن سبقني مِنْهُم، فَمَا رَأَيْت قوما أيسر سيرة، وَلَا أقل تشديدا مِنْهُم، وَعَن عبَادَة بن بسر الْكِنْدِيّ، وَسُئِلَ عَن امْرَأَة مَاتَت مَعَ قوم لَيْسَ لَهَا ولي، فَقَالَ: أدْركْت أَقْوَامًا مَا كَانُوا يشددون تشديدكم، وَلَا يسْأَلُون مسائلكم،
أخرج هَذِه الْآثَار الدَّارمِيّ. وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستفتيه النَّاس فِي الوقائع، فيفتيهم، وترفع إِلَيْهِ القضايا، فَيَقْضِي فِيهَا، وَيرى النَّاس يَفْعَلُونَ مَعْرُوفا، فيمدحه أَو مُنْكرا، فينكر عَلَيْهِ، وكل مَا أفتى بِهِ مستفتيا، أَو قضى بِهِ فِي قَضِيَّة، أَو أنكرهُ على فَاعله، كَانَ فِي الاجتماعات، وَكَذَلِكَ كَانَ الشَّيْخَانِ أَبُو بكر وَعمر إِذا لم يكن لَهما علم فِي الْمَسْأَلَة يسْأَلُون النَّاس عَن حَدِيث رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ: مَا سَمِعت رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهَا شَيْئا يَعْنِي - الْجدّة - وَسَأَلَ النَّاس، فَلَمَّا صلى الظّهْر قَالَ: أَيّكُم سمع رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْجدّة شَيْئا؟ فَقَالَ الْمُغيرَة بن شُعْبَة: أَنا، قَالَ: مَاذَا قَالَ؟ قَالَ: أَعْطَاهَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سدسا، قَالَ: أيعلم ذَاك أحد غَيْرك؟ فَقَالَ مُحَمَّد بن سَلمَة: صدق، فَأَعْطَاهَا أَبُو بكر السُّدس، وقصة سُؤال عمر النَّاس فِي الْغرَّة، ثمَّ رُجُوعه إِلَى خبر مُغيرَة، وسؤاله إيَّاهُم فِي الوباء، ثمَّ رُجُوعه إِلَى خبر عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَكَذَا رُجُوعه فِي قصَّة الْمَجُوس إِلَى خَبره، وسرور عبد الله بن مَسْعُود بِخَبَر معقل بن يسَار لما وَافق رَأْيه، وقصة رُجُوع أبي مُوسَى عَن بَاب عمر وسؤاله عَن الحَدِيث، وَشَهَادَة أبي سعيد لَهُ، وأمثال ذَلِك كَثِيرَة مَعْلُومَة مروية فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسّنَن:
وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ كَانَت عَادَته الْكَرِيمَة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَأى كل صَحَابِيّ مَا يسره الله لَهُ من عِبَادَته وفتاواه وأقضيته، فحفظها، وعقلها، وَعرف لكل شَيْء وَجها من قبل حفوف الْقَرَائِن بِهِ، فَحمل بَعْضهَا على الْإِبَاحَة، وَبَعضهَا على النّسخ لأمارات وقرائن كَانَت كَافِيَة عِنْده، وَلم يكن الْعُمْدَة عِنْدهم إِلَّا وجدان الاطمئنان والثلج من غير الْتِفَات إِلَى طرق الِاسْتِدْلَال كَمَا ترى الْأَعْرَاب يفهمون مَقْصُود الْكَلَام فِيمَا بَينهم، وتثلج صُدُورهمْ بالتصريح والتلويح والإيماء من حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، فانقضى عصره الْكَرِيم وهم على ذَلِك، ثمَّ إِنَّهُم تفَرقُوا فِي الْبِلَاد وَصَارَ كل وَاحِد مقتدى نَاحيَة من النواحي،
فكثرت الوقائع، ودارت الْمسَائِل، فاستفتوا فِيهَا، فَأجَاب كل وَاحِد حَسْبَمَا حفظه، أَو استنبط، وَإِن لم يجد فِيمَا حفظه أَو استنبط مَا يصلح للجواب - اجْتهد بِرَأْيهِ، وَعرف الْعلَّة الَّتِي أدَار رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا الحكم فِي منصوصاته، فطرد