أما الصحيحان فقد اتّفق المحدثون على أَن جَمِيع مَا فيهمَا من الْمُتَّصِل الْمَرْفُوع صَحِيح بِالْقطعِ، وأنهما متواتران إِلَى مصنفيهما، وَأَنه كل من يهون أَمرهمَا فَهُوَ مُبْتَدع مُتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ. وَإِن شِئْت الْحق الصراح فقسهما بِكِتَاب ابْن أبي شيبَة وَكتاب الطَّحَاوِيّ ومسند الْخَوَارِزْمِيّ وَغَيرهمَا تَجِد بَينهَا وَبَينهمَا بعد المشرقين وَقد استدرك الْحَاكِم عَلَيْهِمَا أَحَادِيث هِيَ على شَرطهمَا وَلم يذكراها، وَقد تتبعت مَا استدركه، فَوَجَدته قد أصَاب من وَجه، وَلم يصب من وَجه، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وجد أَحَادِيث مروية عَن رجال الشَّيْخَيْنِ بشرطهما فِي الصِّحَّة والاتصال، فاتجه استدراكه عَلَيْهِمَا من هَذَا الْوَجْه، وَلَكِن الشَّيْخَيْنِ لَا يذكران إِلَّا حَدِيثا قد تناظر فِيهِ مشايخهما، وَأَجْمعُوا على القَوْل بِهِ والتصحيح لَهُ، كَمَا أَشَارَ مُسلم حَيْثُ قَالَ: لم أذكر هَهُنَا إِلَّا مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ، وَجل مَا تفرد بِهِ الْمُسْتَدْرك كالموكا عَلَيْهِ المخفي مَكَانَهُ فِي
زمن مشايخهما وَإِن اشْتهر أمره من بعد، أَو مَا اخْتلف المحدثون فِي رِجَاله فالشيخان كأساتذتهما كَانَا يعتنيان بالبحث عَن نُصُوص الْأَحَادِيث فِي الْوَصْل والانقطاع وَغير ذَلِك حَتَّى يَتَّضِح الْحَال، وَالْحَاكِم يعْتَمد فِي الْأَكْثَر على قَوَاعِد مخرجة من صنائعهم كَقَوْلِه: زِيَادَة الثِّقَات مَقْبُولَة، وَإِذا اخْتلف النَّاس فِي الْوَصْل والإرسال وَالْوَقْف وَالرَّفْع وَغير ذَلِك فَالَّذِي حفظ الزِّيَادَة حجَّة على من لم يحفظ، وَالْحق أَنه كثيرا مَا يدْخل الْخلَل فِي الْحفاظ من قبل الْمَوْقُوف وَوصل الْمُنْقَطع لَا سِيمَا عِنْد رغبتهم فِي الْمُتَّصِل الْمَرْفُوع وتنويههم بِهِ، فالشيخان لَا يَقُولَانِ بِكَثِير مِمَّا يَقُوله الْحَاكِم، وَالله أعلم.
وَهَذِه الْكتب الثَّلَاثَة الَّتِي اعتنى القَاضِي عِيَاض فِي الْمَشَارِق بضبط مشكلها ورد تصحيفها.
الطَّبَقَة الثَّانِيَة: كتب لم تبلغ مبلغ الْمُوَطَّأ والصحيحين، وَلكنهَا تتلوها. كَانَ مصنفوها معروفين بالوثوق وَالْعَدَالَة وَالْحِفْظ والتبحر فِي فنون الحَدِيث، وَلم يرْضوا فِي كتبهمْ هَذِه بالتساهل فِيمَا اشترطوا على أنفسهم، فتلقاها من بعدهمْ بِالْقبُولِ، واعتنى بهَا المحدثون وَالْفُقَهَاء طبقَة بعد طبقَة، واشتهرت فِيمَا بَين النَّاس، وَتعلق بهَا الْقَوْم شرحا لغريبها وفحصا عَن رجالها واستنباطا لفقهها. وعَلى تِلْكَ الْأَحَادِيث بِنَاء عَامَّة الْعُلُوم كسنن أبي دَاوُد وجامع التِّرْمِذِيّ ومجتبى النَّسَائِيّ، وَهَذِه الْكتب مَعَ الطَّبَقَة الأولى اعتنى بأحاديثها رزين فِي تَجْرِيد الصِّحَاح وَابْن الْأَثِير فِي جَامع الْأُصُول وَكَاد مُسْند أَحْمد يكون من جملَة هَذِه الطَّبَقَة، فَإِن الإِمَام أَحْمد جعله أصلا يعرف بِهِ الصَّحِيح والسقيم قَالَ: مَا لَيْسَ فِيهِ فَلَا تقبلوه.