الانتباذ فِي كَانَ آنِية، وَقَالَ: " لَا تشْربُوا مُسكرا " وَذَلِكَ أَنه لما رأى أَن الْإِسْكَار أَمر خَفِي نصب لَهُ مَظَنَّة ظَاهِرَة، وَهِي الانتباذ فِي الأوعية الَّتِي لَا مسام لَهَا كالمأخوذة من الخزف والخشب والدباء، فَإِنَّهُ يسْرع الأسكار فِيمَا ينْبذ فِيهَا، وَنصب الانتباذ فِي السقاء مَظَنَّة لعدم الْإِسْكَار إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام، ثمَّ تغير اجْتِهَاده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى إدارة الحكم على الْإِسْكَار؛ لِأَنَّهُ يعرف بالغليان وَقذف الزّبد، وَنصب مَا هُوَ من لَوَازِم السكر أَو من صِفَات الشَّيْء الْمُسكر مَظَنَّة أولى من نصب مَا هُوَ أَمر أَجْنَبِي ... ، وعَلى تَخْرِيج آخر نقُول: رأى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن الْقَوْم مولعون بالمسكر، فَلَو نهوا عَنهُ كَانَ مدْخل أَن يشربه أحد متعذرا بِأَنَّهُ ظن أَنه لَيْسَ بمسكر وَأَنه اشْتبهَ عَلَيْهِ عَلَامَات الاسكار، أَو كَانَت أوانيهم ملطخة بالمسكر والاسكار يسْرع إِلَى مَا ينْبذ فِي مثل ذَلِك، فَلَمَّا قوى الاسلام، واطمأنوا بترك المسكرات، ونفدت تِلْكَ الْأَوَانِي أدَار الحكم على نفس الاسكار وعَلى هَذَا التَّخْرِيج، وَهَذَا مِثَال لاخْتِلَاف الحكم حسب اخْتِلَاف المظنات وَفِي هَذَا الْقسم قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَلَامي لَا ينْسَخ كَلَام الله، وَكَلَام الله ينْسَخ كَلَامي، وَكَلَام الله ينْسَخ بعضه بَعْضًا ". وَالثَّانِي أَن يكون شَيْء مَظَنَّة مصلحَة أَو مفْسدَة، فَيحكم عَلَيْهِ حسب ذَلِك، ثمَّ يَأْتِي زمَان لَا يكون فِيهِ مَظَنَّة لَهَا، فيتغير الحكم، مِثَاله لما هَاجر النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَة، وانقطعت النُّصْرَة بَينهم وَبَين ذَوي أرحامهم،
وَإِنَّمَا كَانَت بالإخاء الَّذِي جعله النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمصْلحَة ضَرُورِيَّة رَآهَا - نزل الْقُرْآن بادارة التَّوَارُث على الإخاء، وَبَين الله تَعَالَى فَائِدَة حَيْثُ قَالَ:
{إِلَّا تفعلوه تكن فتْنَة فِي الأَرْض وَفَسَاد كَبِير} .
ثمَّ لما قوى الْإِسْلَام، وَلحق بالمهاجرين أولو أرحامهم - رَجَعَ الْأَمر إِلَى مَا كَانَ من التَّوَارُث بِالنّسَبِ ... ، أَو لَا يكون شَيْء مصلحَة فِي النُّبُوَّة الَّتِي لم يضم مَعهَا الْخلَافَة كَمَا كَانَ قبل النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكما كَانَ فِي زَمَانه قبل الْهِجْرَة، وَيكون مصلحَة فِي النُّبُوَّة المضمومة بالخلافة، مِثَاله أَن الله تَعَالَى لم يحل الْغَنَائِم لمن قبلنَا، وَأحل لنا. وَعلل ذَلِك فِي الحَدِيث بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا أَن الله رأى ضعفنا، فأحلها لنا، وَثَانِيهمَا أَن ذَلِك من تَفْضِيل الله نَبينَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سَائِر الْأَنْبِيَاء وَأمته على سَائِر الْأُمَم.