من أَن يعْتَبر فِي الشعائر وَالْحُدُود والارتفاقات عَادَة قومه الْمَبْعُوث فيهم، وَلَا يضيق كل التَّضْيِيق على الآخرين الَّذين يأْتونَ بعد، وَيبقى عَلَيْهِم فِي الْجُمْلَة، والأولون يَتَيَسَّر لَهُم الْأَخْذ بِتِلْكَ الشَّرِيعَة بِشَهَادَة قُلُوبهم وعاداتهم، وَالْآخرُونَ يَتَيَسَّر لَهُم ذَلِك بالرغبة فِي سير أَئِمَّة الْملَّة وَالْخُلَفَاء، فَإِنَّهَا كالأمر الطبيعي لكل قوم فِي كل عصر قَدِيما أَو حَدِيثا.
والأقاليم الصَّالِحَة لتولد الأمزجة المعتدلة كَانَت مَجْمُوعَة تَحت ملكَيْنِ كبيرين يَوْمئِذٍ:
أَحدهمَا كسْرَى - وَكَانَ متسلطا على الْعرَاق واليمن وخراسان وماوليهما، وَكَانَت مُلُوك مَا وَرَاء النَّهر والهند تَحت حكمه يجبي إِلَيْهِ مِنْهُم الْخراج كل سنة،
وَالثَّانِي قَيْصر، وَكَانَ متسلطا على الشَّام وَالروم، وماوليهما، وَكَانَ مُلُوك مصر وَالْمغْرب والإفريقية تَحت حكمه يجبي إِلَيْهِ مِنْهُم الْخراج.
وَكَانَ كسر دولة هذَيْن الْملكَيْنِ والتسلط على ملكهمَا بِمَنْزِلَة الْغَلَبَة على جَمِيع الأَرْض، وَكَانَت عاداتهم فِي الترفه سَارِيَة فِي جَمِيع الْبِلَاد الَّتِي هِيَ تَحت حكمهمَا، وَتغَير تِلْكَ الْعَادَات، وصدهم عَنْهَا مفضيا فِي الْجُمْلَة إِلَى تَنْبِيه جَمِيع الْبِلَاد على ذَلِك وَإِن اخْتلفت أُمُورهم بعده، وَقد ذكر الهرمزان شَيْئا من ذَلِك حِين استشاره عمر رَضِي الله عَنهُ فِي غزَاة الْعَجم، أما سَائِر النواحي الْبَعِيدَة عَن اعْتِدَال المزاج، فَلَيْسَ بهَا كثير اعْتِدَاد فِي الْمصلحَة الْكُلية وَلذَلِك قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اتْرُكُوا التّرْك مَا تركوكم، ودعوا الْحَبَشَة مَا ودعوكم ".
وَبِالْجُمْلَةِ فَلَمَّا أَرَادَ الله تَعَالَى إِقَامَة الْملَّة العوجاء، وَأَن يخرج للنَّاس أمة تَأْمُرهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وتنهاهم عَن الْمُنكر، وَتغَير رسومهم الْفَاسِدَة كَانَ ذَلِك مَوْقُوفا على زَوَال دولة هذَيْن متيسرا بالتعرض لحالهما فَإِن حَالهمَا يسرى فِي جَمِيع الأقاليم الصَّالِحَة أَو يكَاد يسري فَقضى الله بِزَوَال دولتهما، وَأخْبر النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَن هلك كسْرَى، فَلَا كسْرَى بعده، وَهلك قَيْصر، فَلَا قَيْصر بعده، وَنزل الْحق الدامغ لباطل جَمِيع الأَرْض فِي دمغ بَاطِل الْعَرَب بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه، ودمغ بَاطِل هذَيْن الْملكَيْنِ بالعرب، ودمغ سَائِر الْبِلَاد بملتهما، وَللَّه الْحجَّة الْبَالِغَة.
وَمِنْهَا أَن يكون تَعْلِيمه الدّين إيَّاهُم مضموما إِلَى الْقيام بالخلافة الْعَامَّة، وَأَن يَجْعَل الْخُلَفَاء من بعده أهل بَلَده وعشيرته الَّذين نشئوا على تِلْكَ الْعَادَات وَالسّنَن، وَلَيْسَ التكحل فِي الْعَينَيْنِ كالكحل، وَيكون الحمية الدِّينِيَّة فيهم مقرونة بالحمية النسبية، وَيكون علو أَمرهم ونباهة شَأْنهمْ علوا لأمر صَاحب الْملَّة ونباهة لشأنه، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْأَئِمَّة من قُرَيْش "، ويوصي الْخُلَفَاء بِإِقَامَة الدّين وإشاعته، وَهُوَ قَول أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ: بقاؤكم عَلَيْهِ مَا استقامت بكم أئمتكم.