فَلَمَّا شرع الله تَعَالَى الْإِيمَان والبينات مُوضحَة لجلية الْحَال اقْتضى ذَلِك أَن تكون شَهَادَة الزُّور وَالْيَمِين الكاذبة مسخوطة عِنْد الله وَمَلَائِكَته.
وَمِنْهَا أَنه إِذا أوحى إِلَيْهِ بِحكم من أَحْكَام الشَّرْع، واطلع على حكمته وَسَببه كَانَ لَهُ أَن يَأْخُذ تِلْكَ الْمصلحَة، وَينصب لَهَا عِلّة، ويدير عَلَيْهَا ذَلِك الحكم، وَهَذَا قِيَاس النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... ، وَإِنَّمَا قِيَاس أمته أَن يعرفوا عِلّة الحكم الْمَنْصُوص عَلَيْهِ، فيديروا الحكم حَيْثُ دارت، مِثَاله الْأَذْكَار الَّتِي وَقتهَا النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصباح والمساء وَوقت النّوم، فَإِنَّهُ لما اطلع على حِكْمَة شرع الصَّلَوَات اجْتهد فِي ذَلِك.
وَمِنْهَا أَنه إِذا فهم النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من آيَة وَجه سوق الْكَلَام، وَإِن لم يكن غَيره يفهم مِنْهُ ذَلِك لدقة مأخذه أَو تزاحم الِاحْتِمَالَات فِيهِ - كَانَ لَهُ أَن يحكم حَسْبَمَا فهم كَقَوْلِه تَعَالَى:
{إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله}
فهم مِنْهُ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن تَقْدِيم الصَّفَا على الْمَرْوَة لأجل مُوَافقَة الْبَيَان لما هُوَ الْمَشْرُوع لَهُم كَمَا قد يكون لموافقة السُّؤَال وَنَحْو ذَلِك، فَقَالَ: " ابدءوا مَا بَدَأَ الله بِهِ " وَكَقَوْلِه تَعَالَى:
{لَا تسجدوا للشمس وَلَا للقمر واسجدوا لله الَّذِي خَلقهنَّ}
وَقَوله تَعَالَى:
{فَلَمَّا أفل قَالَ لَا أحب الآفلين}
فهم مِنْهُمَا النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِحْبَاب أَن يعبدوا الله تَعَالَى عِنْد الْكُسُوف والخسوف، وَكَقَوْلِه تَعَالَى:
{وَللَّه الْمشرق وَالْمغْرب} الْآيَة
فهم مِنْهُ أَن اسْتِقْبَال الْقبْلَة فرض يحْتَمل السُّقُوط عِنْد الْعذر، فَخرج حكم من تحرى فِي اللَّيْلَة الظلماء، فاخطأ جِهَة الْقبْلَة، وَصلى لغَيْرهَا، وَحكم الرَّاكِب على الدَّابَّة يُصَلِّي النَّافِلَة خَارج الْبَلَد.
وَمِنْهَا أَنه إِذا أَمر الله تَعَالَى أحدا بِشَيْء من مُعَاملَة النَّاس اقْتضى ذَلِك أَن يُؤمر النَّاس بالانقياد لَهُ فِيهَا، فَلَمَّا أَمر الْقُضَاة أَن يقيموا الْحُدُود اقْتضى ذَلِك أَن يُؤمر العصاة بِأَن ينقادوا لَهُم فِيهَا، وَلما أَمر الْمُصدق بِأخذ الزَّكَاة من الْقَوْم أمروا أَلا يصدر عَنْهُم إِلَّا رَاضِيا، وَلما أَمر النِّسَاء أَن يسترن أَمر الرِّجَال أَن يغضوا أَبْصَارهم عَنْهُن.