الْكَلَام إِلَّا على وُجُوه وُقُوعهَا وَعظم الِابْتِلَاء بهَا لَا سِيمَا فِي قوم نزل الْقُرْآن بلغتهم، وتعينت الشَّرِيعَة فِي عاداتهم وَلَا يَنْبَغِي أَن يُجَاوز من مُلَاحظَة كَون الطَّاعَة مُؤثرَة بالخاصية مَتى مَا أمكن، وَلذَلِك شرع الْقصر فِي السّفر دون الاكساب الشاقة، وَدون الزراع والعمال، وَجوز للْمُسَافِر المترفه مَا جوز لغير المترفه، وَالْقَضَاء مِنْهُ قَضَاء بِمثل مَعْقُول، وَمِنْه بِمثل غير مَعْقُول، وَلما كَانَ أصل الطَّاعَة انقياد الْقلب لحكم الله ومؤاخذة النَّفس بتعظيم الله كَانَ كل من عمل عَن غير قصد وَلَا عَزِيمَة أَو هُوَ من جنس من لَا يتكامل قَصده وَلَا يتَمَكَّن من مُؤَاخذَة نَفسه بالتعظيم كَمَا يَنْبَغِي - من حَقه أَن يعْذر وَألا يضيق عَلَيْهِ كل التَّضْيِيق
وعَلى هَذَا يَنْبَغِي أَن يخرج قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة " الحَدِيث وَالله أعلم.
قد ذكرنَا فِيمَا سبق تَصْرِيحًا أَو تَلْوِيحًا أَن الارتفاق الثَّانِي وَالثَّالِث مِمَّا جبل عَلَيْهِ الْبشر، وامتازوا بِهِ عَن سَائِر أَنْوَاع الْحَيَوَان، محَال أَن يتركوهما، أَو يهملوهما، وَأَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ فِي كثير من ذَلِك إِلَى حَكِيم عَالم بِالْحَاجةِ وَطَرِيق الارتفاق مِنْهَا، منقاد للْمصْلحَة الْكُلية إِمَّا مستنبط بالفكر والروية أَو يكون نَفسه قد جبلت فِيهَا قُوَّة ملكية، فَيكون مهيئا لنزول عُلُوم من الْمَلأ الْأَعْلَى، وَهَذَا أتم الْأَمريْنِ وأوثق الْوَجْهَيْنِ، وَأَن الرسوم من الارتفاقات هِيَ بِمَنْزِلَة الْقلب من الْجَسَد، وَأَنه قد يدْخل فِي الرسوم مفاسد من جِهَة ترأس قوم لَيْسَ عِنْدهم مسكة الْعقل الْكُلِّي فَيخْرجُونَ إِلَى أَعمال سبعية أَو شهوية أَو شيطانية، فيروجونها، فيقتدي بهم أَكثر النَّاس، وَمن جِهَة أُخْرَى نَحْو ذَلِك، فتمس الْحَاجة إِلَى رجل قوي مؤيد من الْغَيْب منقاد للْمصْلحَة الْكُلية، ليغير رسومهم إِلَى الْحق بتدبير لَا يَهْتَدِي لَهُ فِي الْأَكْثَر إِلَّا المؤيدون من روح الْقُدس.
فَإِن كنت قد أحطت علما بِمَا هُنَالك فَاعْلَم أَن أصل بعثة الْأَنْبِيَاء وَإِن كَانَ لتعليم وُجُوه الْعِبَادَات أَولا وبالذات، لكنه قد تنضم مَعَ ذَلِك إِرَادَة إخمال الرسوم الْفَاسِدَة والحث