وَالْمُعْتَبر فِي نزُول الشَّرَائِع لَيْسَ الْعُلُوم والحالات والعقائد المتمثلة فِي صُدُورهمْ فَقَط، بل أعظمها اعْتِبَارا، وأولاها اعتدادا مَا نشأوا عَلَيْهِ واندفعت عُقُولهمْ إِلَيْهِ من حَيْثُ يعلمُونَ وَمن حَيْثُ لَا يعلمُونَ، كَمَا ترى ذَلِك فِي علاقات تمثل شَيْء بِصُورَة غَيره كتمثل منع النَّاس عَن السّحُور فِي صُورَة الْخَتْم على الأفواه، فان الْخَتْم شبح الْمَنْع عِنْد الْقَوْم استحضروه أم لَا.
وَحقّ الله على عباده فِي الأَصْل أَن يعظموه غَايَة التَّعْظِيم، وَلَا يقدموا على مُخَالفَة أمره بِوَجْه من الْوُجُوه، وَالْوَاجِب فِيمَا بَين النَّاس أَن يقيموا مصلحَة التَّأْلِيف والتعاون، وَلَا يُؤْذى أحد أحدا إِلَّا إِذا أَمر بِهِ الرأى الْكُلِّي وَنَحْو ذَلِك، وَلذَلِك كَانَ الَّذِي وَقع على امْرَأَة يعلم أَنَّهَا أَجْنَبِيَّة - قد أرْخى بَينه وَبَين الله حجاب، وَكتب ذَلِك من اجترائه على الله، وَإِن كَانَت امْرَأَته فِي الْحَقِيقَة لِأَنَّهُ أقدم على مُخَالفَة أَمر الله وَحكمه، وَالَّذِي وَقع على أَجْنَبِيَّة وَهُوَ يعلم أَنَّهَا امْرَأَته لَا يألوا فِي ذَلِك مَعْذُورًا فِيمَا بَينه وَبَين الله، وَكَانَ الَّذِي نذر الصَّوْم ماخوذا بنذره دون من لم ينذر، وَكَانَ من تشدد فِي الدّين شدد عَلَيْهِ، وَكَانَت لطمة الْيَتِيم للتاديب حَسَنَة، وللتعذيب سَيِّئَة، وَكَانَ الْمُخطئ والناسى معفوا عَنْهُمَا فِي كثير من الْأَحْكَام، فَهَذَا الأَصْل يتلقاه عُلُوم الْقَوْم وعاداتهم الكامنة مِنْهَا والبارزة، فيتشخص الشَّرَائِع فِي حَقهم حسب ذَلِك.
وَاعْلَم أَن كثيرا من الْعَادَات والعلوم الكامنة يتَّفق فِيهَا الْعَرَب والعجم وَجمع سكان الأقاليم المعتدلة وَأهل الأمزجة الْقَابِلَة للأخلاق الفاضلة. كالحزن لميتهم واستحباب الرِّفْق بِهِ. وكالفخر بِالْأَحْسَابِ والأنساب.
وكالنوم إِذا مضى ربع اللَّيْل أَو ثلثه. أَو نَحْو ذَلِك. والاستيقاظ فِي تباشير الصُّبْح إِلَى غير ذَلِك مِمَّا أَو مَا نَا إِلَيْهِ فِي الارتفاقات. فَتلك الْعَادَات والعلوم أَحَق الْأَشْيَاء بِالِاعْتِبَارِ ثمَّ بعْدهَا عادات وعقائد تخْتَص بالمبعوث إِلَيْهِم. فَتعْتَبر تِلْكَ أَيْضا وَقد جعل الله لكل شَيْء قدرا.
وَاعْلَم أَن النُّبُوَّة كثيرا مَا تكون من تَحت الْملَّة كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {مِلَّة أبيكم إِبْرَاهِيم} .
وكما قَالَ: {وَإِن من شيعته لإِبْرَاهِيم} .
وسر ذَلِك أَنه تنشأ قُرُون كَثِيرَة على التدين بدين. وعَلى تَعْظِيم شعائره. وَتصير أَحْكَامه من المشهورات الذائعة اللاحقة بالبديهيات الأولية الَّتِي لَا تكَاد تنكر. فتجيء نبوة أُخْرَى لإِقَامَة مَا اعوج مِنْهَا: وَصَلَاح مَا فسد مِنْهَا بعد اخْتِلَاط رِوَايَة نبيها، فتفتش عَن الْأَحْكَام