كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وَهَذَا تَعْرِيفٌ لِلشُّكْرِ التَّامِّ، وَأَصْلُ الشُّكْرِ: صَرْفُ شَيْءٍ مَا. وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] مَعْنًى، وَقَدْ يُقَالُ الْمُبَالَغَةُ بِحَسْبِ الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ فَلَا يُقَالُ إنَّهُ مُتَعَذِّرٌ لَا قَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُدَاوَمَةَ الْحَقِيقِيَّةَ لَا تَتَعَذَّرُ إلَّا بِحَسْبِ عُقُولِ الْقَاصِرِينَ الْمُقَصِّرِينَ. ثُمَّ هَذَا شُكْرُ عَامَّةِ أَهْلِ اللَّهِ، وَيَقْرَبُ مِنْهُ قَوْلُ الْجُنَيْدِ لَمَّا سَأَلَهُ شَيْخُهُ السَّرِيُّ السَّقَطِيُّ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ: يَا غُلَامُ مَا الشُّكْرُ؟ فَقَالَ: أَنْ لَا يُعْصَى اللَّهُ بِنِعَمِهِ. فَقَالَ: يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ حَظُّك مِنْ اللَّهِ لِسَانَك،، قَالَ الْجُنَيْدُ؛ فَلَا أَزَالُ أَبْكِي عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ، قَالَهُ شَيْخُنَا الْأَمِيرُ. (وَلَوْ) كَانَ مَا خُلِقْت لَهُ (مُبَاحًا ضَرُورِيًّا - كَالْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ - فَلَيْسَ فَاعِلُ الْمُبَاحِ كَافِرًا لِلنِّعْمَةِ)
لِأَنَّهُ صَرْفٌ فِيمَا خُلِقَ لَهُ (فَإِنْ نَوَى خَيْرًا) - كَإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَالتَّقْوَى عَلَى الطَّاعَةِ وَكَفِّ الشَّهْوَةِ عَمَّا لَا يُرْضِي اللَّهَ (فَطَاعَةٌ) : أَيْ فَصَارَ الْمُبَاحُ طَاعَةً يُثَابُ عَلَيْهِ (بِ) سَبَبِ (النِّيَّةِ) الْحَسَنَةِ.
(وَحَمْدُهُ تَعَالَى) فِي عُرْفِ النَّاسِ الْعَامِّ، إذْ بِتَعْرِيفِهِ الْآتِي لَيْسَ خَاصًّا بِالشَّرْعِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQلِخَلْقِهِ لَا لَهُ.
قَوْلُهُ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] : أَيْ إلَّا لِيَئُولَ أَمْرُهُمْ لِعِبَادَتِي كَمَا سَبَقَتْ بِهِ حِكْمَتِي فَتَعُودُ مَصَالِحُ عِبَادَتِهِمْ عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ: [وَهَذَا تَعْرِيفٌ لِلشُّكْرِ التَّامِّ] : أَيْ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ إلَى مَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ.
قَوْلُهُ: [وَلَوْ كَانَ مَا خُلِقَتْ لَهُ] : الْمُنَاسِبُ وَلَوْ كَانَ الصَّرْفُ فِيمَا خُلِقَتْ لَهُ.
قَوْلُهُ: [كَإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ] إلَخْ: كُلٌّ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَالتَّقْوَى عَلَى الطَّاعَةِ وَكَفِّ الشَّهْوَةِ يَصْلُحُ فِي الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ.
قَوْلُهُ: [أَيْ فَصَارَ الْمُبَاحُ طَاعَةً] : أَيْ وَهَذِهِ الْمَقَاصِدُ لَا تُفَارِقُ الْمَعْصُومِينَ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ.
قَوْلُهُ: [لَيْسَ خَاصًّا بِالشَّرْعِ] : أَيْ لِأَنَّ الْحَمْدَ الشَّرْعِيَّ هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ بِالْكَمَالَاتِ.