وَالثَّانِي يَجِبُ دَفْعُهُ (وَالدَّفْعُ عَنْ غَيْرِهِ فَهُوَ عَنْ نَفْسِهِ) فَيَجِبُ تَارَةً وَلَا يَجِبُ أُخْرَى عَلَى خِلَافٍ فِيهَا (وَقِيلَ: يَجِبُ) فِيهَا (قَطْعًا) لِأَنَّ لَهُ الْإِيثَارَ بِحَقِّ نَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَالْوُجُوبُ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ قَالَ الرَّافِعِيُّ: كَذَلِكَ قَيَّدَهُ الشَّيْخُ إبْرَاهِيمُ الْمَرْوَرُوذِيُّ وَغَيْرُهُ وَسَكَتَ فِي الرَّوْضَةِ عَنْ الْعُزُوِّ
(وَلَوْ سَقَطَتْ جَرَّةٌ) مِنْ عُلُوٍّ عَلَى إنْسَانٍ، (وَلَمْ تَنْدَفِعْ عَنْهُ إلَّا بِكَسْرِهَا) فَكَسَرَهَا (ضَمِنَهَا فِي الْأَصَحِّ) وَالثَّانِي لَا تَنْزِيلًا لَهَا مَنْزِلَةَ الْبَهِيمَةِ الصَّائِلَةِ وَدُفِعَ بِأَنَّ لِلْبَهِيمَةِ اخْتِيَارًا.
(وَيُدْفَعُ الصَّائِلُ بِالْأَخَفِّ) فَالْأَخَفِّ (فَإِنْ أَمْكَنَ بِكَلَامٍ أَوْ اسْتِغَاثَةٍ) بِالْمُعْجَمَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ (حَرُمَ الضَّرْبُ أَوْ بِضَرْبٍ بِيَدٍ حَرُمَ سَوْطٌ أَوْ بِسَوْطٍ حَرُمَ عَصًا أَوْ بِقَطْعِ عُضْوٍ حَرُمَ قَتْلٌ، فَإِنْ أَمْكَنَ هَرَبَ فَالْمَذْهَبُ وُجُوبُهُ وَتَحْرِيمُ قِتَالٍ) ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لَا يَجِبُ
ـــــــــــــــــــــــــــــSحَالَتْ بَهِيمَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِهِ، فَلَا يَجُوزُ دَفْعُهَا وَيَضْمَنُهَا إنْ تَلِفَتْ بِدَفْعِهِ قَوْلُهُ: (فَيَجُوزُ الِاسْتِسْلَامُ) إنْ لَمْ يُمْكِنْ هَرَبٌ أَوْ نَحْوُ اسْتِغَاثَةٍ وَإِلَّا وَجَبَ ذَلِكَ فَإِنْ قَاتَلَ مَعَ ذَلِكَ صَارَ ضَامِنًا قَالَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا نَعَمْ لَا يَجُوزُ اسْتِسْلَامُ مَنْ بِهِ نَفْعٌ عَامٌ كَعَالِمٍ أَوْ شُجَاعٍ قَالَهُ شَيْخُنَا. قَوْلُهُ: (وَالدَّفْعُ عَنْ غَيْرِهِ كَهُوَ عَنْ نَفْسِهِ إلَخْ) أَيْ ذَاتِهَا أَوْ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ مَالٍ وَغَيْرِهِ، مِمَّا تَقَدَّمَ وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ فَيَجِبُ تَارَةً إلَى الْأَوَّلِ وَبِقَوْلِهِ وَلَا يَجِبُ أُخْرَى إلَى الثَّانِي، لَكِنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ ظَاهِرٌ، أَوْ صَرِيحٌ فِي إرَادَةِ الْأَوَّلِ وَعَلَى كُلٍّ فَهَذَا دَاخِلٌ فِيمَا قَبْلَهُ، وَلَعَلَّ ذِكْرَهُ لِأَجْلِ مُخَالَفَةِ الْخِلَافِ فَتَأَمَّلْ. قَوْلُهُ: (وَلَا يَجِبُ الدَّفْعُ عَنْ الْمَالِ بِشَرْطٍ) وَفَارَقَ حُرْمَةَ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ الْمُؤَدِّي لِلضَّيَاعِ بِوُجُودِ الصِّيَالِ هُنَا. قَوْلُهُ: (فِيهَا) ضَمِيرُهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَائِدٌ إلَى أُخْرَى لِلْإِشَارَةِ إلَى أَنَّ فِي الدَّفْعِ عَنْ الْمَالِ طَرِيقَيْنِ، وَأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الدَّفْعِ عَنْ النَّفْسِ خِلَافًا لِمَا يُوهِمُهُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ.
قَوْلُهُ: (ضَمِنَهَا) إنْ كَانَتْ مَوْضُوعَةً بِحَقٍّ عَلَى هَيْئَةٍ لَا يَخْشَى سُقُوطَهَا وَإِلَّا كَمَغْصُوبٍ أَوْ نَحْوِ مَيْلٍ، فَلَا ضَمَانَ لَهَا بَلْ يَضْمَنُ وَاضِعُهَا مَا أَتْلَفَتْهُ.
قَوْلُهُ: (وَيُدْفَعُ الصَّائِلُ) وَيُصَدَّقُ فِي دَعْوَاهُ عَدَمَ الصِّيَالِ وَفِي مُرَاعَاتِهِ الْمُمْكِنِ بِيَمِينِهِ فِيهِمَا مَا لَمْ تَقُمْ قَرِينَةٌ قَوِيَّةٌ عَلَى صِيَالِهِ كَهُجُومٍ بِنَحْوِ سَيْفٍ، وَضَعْفِ الْمَصُولِ عَلَيْهِ عَنْهُ. قَوْلُهُ: (بِكَلَامٍ أَوْ اسْتِغَاثَةٍ) فَهُمَا سَوَاءٌ إلَّا أَنْ لَزِمَ عَلَى الِاسْتِغَاثَةِ ضَرَرٌ مِنْ نَحْوِ ظَالِمٍ فَيَجِبُ تَأْخِيرُهَا عَنْ الزَّجْرِ. قَوْلُهُ: (بِالْمُعْجَمَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ) لَا بِالْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ لِشُمُولِهِ الِاسْتِغَاثَةَ بِمَنْ يَقْتُلُهُ أَوْ يَضْرِبُهُ مَثَلًا. قَوْلُهُ: (وَتَحْرِيمُ قِتَالٍ) وَكَذَا غَيْرُهُ مِنْ نَحْوِ ضَرْبٍ أَوْ قَطْعٍ، فَإِنْ خَالَفَ ضَمِنَ وَلَوْ بِالْقِصَاصِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ أَيْ حَيْثُ وُجِدَتْ شُرُوطُ الْقِصَاصِ بِأَنْ دَفَعَهُ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا كَمَا يُصَرِّحُ بِذَلِكَ شَرْحُ شَيْخِنَا، وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ وُجُوبَ تَقْدِيمِ الزَّجْرِ عَلَى الِاسْتِغَاثَةِ مِنْ حَيْثُ الْحُرْمَةُ إذْ لَا ضَمَانَ فِيهِمَا، وَكَذَا غَيْرُهُمَا مِمَّا فِيهِ التَّرْتِيبُ وَخَالَفَهُ فَسَقَطَ مَا لِبَعْضِهِمْ هُنَا مِنْ الِاعْتِرَاضِ فَرَاجِعْهُ، وَلَوْ أَمْكَنَ الْمَصُولُ عَلَيْهِ خَلَاصَ نَفْسِهِ بِهَرَبٍ أَوْ غَيْرِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ وَحَرُمَ عَلَيْهِ الْمُقَاتَلَةُ.
تَنْبِيهٌ: مَحِلُّ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ عِنْدَ إمْكَانِهِ فَلَوْ لَمْ يَجِدْ إلَّا سِكِّينًا أَوْ سَيْفًا ابْتِدَاءً فَلَهُ الدَّفْعُ بِهِ أَوْ الْتَحَمَ قِتَالٌ، وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ سَقَطَ التَّرْتِيبُ أَوْ كَانَ الْمَصُولُ عَلَيْهِ غَيْرَ مَعْصُومٍ كَحَرْبِيٍّ فَكَذَلِكَ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَكَذَا فِي الْفَاحِشَةِ كَأَنْ رَآهُ قَدْ أَوْلَجَ فِي أَجْنَبِيَّةٍ، فَلَهُ أَنْ يَبْدَأَهُ بِالْقَتْلِ، وَإِنْ انْدَفَعَ بِدُونِهِ وَلَمْ يَعْتَمِدْهُ شَيْخُنَا تَبَعًا لِشَيْخِنَا الرَّمْلِيِّ، وَنُقِلَ عَنْ شَيْخِنَا الرَّمْلِيِّ حَمْلُ كَلَامِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْمُحْصَنِ.
قَوْلُهُ: (عَضَّتْ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْعَضُّ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ إنْ كَانَ بِالْجَارِحَةِ، وَإِلَّا فَبِالظَّاءِ الْمُشَالَةِ نَحْوَ عَظُّ الزَّمَانِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا وَقَعَ لِعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوْلُهُ: (وَالثَّانِي يَجِبُ) أَيْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وَكَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ إحْيَاءُ نَفْسِهِ بِالطَّعَامِ، قَوْلُهُ: (وَالدَّفْعُ عَنْ غَيْرِهِ إلَخْ) اقْتَضَى هَذَا الْكَلَامُ أَوَّلًا وَآخِرًا أَنَّ مَنْ رَأَى إنْسَانًا يُتْلِفُ مَالَ الْغَيْرِ أَوْ مَالَ الرَّائِي وَتَمَكَّنَ مِنْ دَفْعِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ لَا يَجِبُ الدَّفْعُ، وَاسْتُشْكِلَ بِتَحْرِيمِ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ بَلْ صَرَّحَ الْغَزَالِيُّ بِالْوُجُوبِ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ إزَالَةَ الْمُنْكَرِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ فَلَعَلَّ الْمَنْفِيَّ هُنَا الْوُجُوبُ الْعَيْنِيُّ ثُمَّ ظَهَرَ لِي أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ وُجُوبَ الدَّفْعِ عَنْ الْبُضْعِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي إزَالَةِ الْمُنْكَرِ بِالْفِعْلِ مَثَلًا بِمَعْنَى أَنَّهُ يُحَصِّلُهُ بِيَدِهِ مَثَلًا فَإِنْ تَوَقَّفَ التَّخْلِيصُ عَلَى دَفْعٍ وَقِتَالٍ كَانَ ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ وَنَحْوِهَا جَائِزًا لَا وَاجِبًا كَمَا بَيَّنَ فِي هَذَا الْبَابِ وَبِهَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى يَزُولُ الْإِشْكَالُ.
قَوْلُهُ: (فَإِنْ أَمْكَنَ هَرَبٌ) أَيْ إذَا كَانَ الصِّيَالُ عَلَى النَّفْسِ أَوْ غَيْرِهَا وَأَمْكَنَ الْهَرَبُ بِهِ. قَوْلُهُ: (فَالْمَذْهَبُ وُجُوبُهُ) إذَا تَأَمَّلْت هَذِهِ الْعِبَارَةَ اسْتَفَدْت مِنْهَا أَنَّ مَعْنَى جَوَازِ الِاسْتِسْلَامِ السَّابِقِ أَنَّهُ إذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ الْقِتَالِ وَبَيْنَ الِاسْتِسْلَامِ جَازَ الِاسْتِسْلَامُ، وَأَمَّا إذَا أَمْكَنَ الْهَرَبُ فَإِنَّهُ يَجِبُ وَيَحْرُمُ الثَّبَاتُ، وَإِلَّا لَكَانَ مِنْ حَقِّ الْمُؤَلِّفِ أَنْ يُقَدِّمَهُ عَلَى تَحْرِيمِ الْقِتَالِ، وَلَا يَذْكُرُ وُجُوبَ الْهَرَبِ وَهَذَا ظَاهِرٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَلَكِنْ بَقِيَ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ الْهَرَبِ فَلَمْ يَفْعَلْ، هَلْ يَكُونُ مَضْمُونًا الظَّاهِرُ نَعَمْ وَلَا يُشْكِلُ عَلَى هَذَا مَا لَوْ أَلْقَاهُ فِي مَاءٍ مُغْرِقٍ فَتَرَكَ السِّبَاحَةَ وَهُوَ يُحْسِنُهَا. لِأَنَّ الْفِعْلَ وَهُوَ الْإِلْقَاءُ قَدْ انْقَطَعَ بِخِلَافِ الصِّيَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ: