الْأمة على أَن كل وَاحِد مِنْهَا يجوز الْعَمَل بِهِ
لِأَنَّهُ مُسْتَند إِلَى سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَالْقَاضِي الْآن وَإِن لم يكن من أهل الِاجْتِهَاد وَلَا سعى فِي طلب الْأَحَادِيث وانتقاد طرقها لَكِن عرف من لُغَة النَّاطِق بالشريعة صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا لَا يعوزه مَعَه مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِيهِ
وَغير ذَلِك من شُرُوط الِاجْتِهَاد
فَإِن ذَلِك مِمَّا قد فرغ لَهُ مِنْهُ ودأب لَهُ فِيهِ سواهُ
وانْتهى الْأَمر من هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين إِلَى تَقْرِير مَا أراحوا بِهِ من بعدهمْ
وانحصر الْحق فِي أقاويلهم
وتدونت الْعُلُوم وانتهت إِلَى مَا اتَّضَح فِيهِ الْحق الْجَلِيّ وَإِنَّمَا على القَاضِي فِي أقضيته الْعَمَل بِمَا يَأْخُذهُ عَنْهُم أَو عَن الْوَاحِد مِنْهُم
فَإِنَّهُ فِي معنى من كَانَ اجْتِهَاده إِلَى قَول قَالَه
وعَلى ذَلِك فَإِنَّهُ إِذا خرج من خلافهم متوخيا مَوَاطِن الِاتِّفَاق مَا أمكنه كَانَ آخِذا بالحزم عَاملا بِالْأولَى
وَكَذَلِكَ إِذا قصد فِي مَوَاطِن الْخلاف أَن يتوخى مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَر مِنْهُم وَالْعَمَل بِمَا قَالَه الْجُمْهُور دون الْوَاحِد
فَإِنَّهُ أَخذ بالحزم مَعَ جَوَاز عمله بقول الْوَاحِد إِلَّا أَنه يكره لَهُ أَن يكون من حَيْثُ إِنَّه قَرَأَ مَذْهَب وَاحِد مِنْهُم أَو نَشأ فِي بَلْدَة لم يعرف فِيهَا إِلَّا مَذْهَب إِمَام وَاحِد مِنْهُم
أَو كَانَ أَبوهُ أَو شَيْخه على مَذْهَب وَاحِد مِنْهُم
فقصر نَفسه على اتِّبَاع ذَلِك الْمَذْهَب
حَتَّى إِنَّه إِذا حضر عِنْده خصمان وَكَانَ مَا تشاجرا فِيهِ مِمَّا يُفْتِي الْفُقَهَاء الثَّلَاثَة بِجَوَازِهِ نَحْو التَّوْكِيل بِغَيْر رضى الْخصم وَكَانَ الْحَاكِم حنفيا وَعلم أَن مَالِكًا وَالشَّافِعِيّ وَأحمد اتَّفقُوا على جَوَاز هَذَا التَّوْكِيل
وَأَن أَبَا حنيفَة مَنعه
فَعدل عَمَّا اجْتمع عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة إِلَى مَا ذهب أَبُو حنيفَة إِلَيْهِ بمفرده من غير أَن يثبت عِنْده بِالدَّلِيلِ مَا قَالَه وَلَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد
فَإِنِّي أَخَاف على هَذَا من الله عز وَجل بِأَنَّهُ اتبع فِي ذَلِك هَوَاهُ
وَأَنه لَيْسَ من الَّذين يَسْتَمِعُون القَوْل فيتبعون أحْسنه
وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ القَاضِي مالكيا فاختصم إِلَيْهِ اثْنَان فِي سُؤْر الْكَلْب فَقضى بِطَهَارَتِهِ مَعَ علمه بِأَن الْفُقَهَاء كلهم قضوا بِنَجَاسَتِهِ
وَكَذَلِكَ إِن كَانَ القَاضِي شافعيا
فاختصم إِلَيْهِ اثْنَان فِي مَتْرُوك التَّسْمِيَة عمدا
فَقَالَ أَحدهمَا هَذَا مَنَعَنِي من بيع شَاة مذكاة
وَقَالَ الآخر إِنَّمَا منعته من بيع الْميتَة
فَقضى عَلَيْهِ بمذهبه
وَهُوَ يعلم أَن الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة على خِلَافه
وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ القَاضِي حنبليا
فاختصم إِلَيْهِ اثْنَان
فَقَالَ أَحدهمَا لي عَلَيْهِ مَال
وَقَالَ الآخر كَانَ لَهُ عَليّ مَال وَقَضيته
فَقضى عَلَيْهِ بِالْبَرَاءَةِ
وَقد علم أَن الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة على خِلَافه
فَهَذَا وَأَمْثَاله مِمَّا يرجع إِلَى الْأَكْثَرين فِيهِ عِنْدِي أقرب إِلَى الْإِخْلَاص
وأرجح فِي الْعَمَل
وَمُقْتَضى هَذَا أَن ولايات الْحُكَّام فِي وقتنا هَذَا صَحِيحَة وَأَنَّهُمْ قد سدوا ثغرا من ثغور الْإِسْلَام سَده فرض كِفَايَة
وَلَو أهملت هَذَا القَوْل وَلم أذكرهُ ومشيت على الطَّرِيق الَّتِي يمشي عَلَيْهَا الْفُقَهَاء فِي كتاب صنفوه أَو كَلَام قَالُوهُ