من غير شيء أم هم الخالقون). قال جبير بن مطعم: لما سمعت هذه الآية أحسست بفؤادي قد انصدع)). فإن هذا تقسيم حاضر يقول: أخلقوا من غير خالق خلقهم؟ ، فهذا ممتنع في بداية العقول. أم هم خلقوا أنفسهم؟ فهذا أشد امتناعًا، فعلم أن لهم خالقًا خلقهم. وهو -سبحانه وتعالى- ذكر الدليل بصيغة استفهام الإنكار، ليبين أن هذه القضية التي استدل بها فطرية بديهية مستقرة في النفوس، لا يمكن لأحد إنكارها، فلا يمكن صحيح الفطرة أن يدعي وجود حادث بدون محدث أحدثه، ولا يمكنه أن يقول: هذا أحدث نفسه. وكثير من النظار يسلك طريقًا في الاستدلال على المطلوب ويقول: لا يوصل إلى مطلوب إلا بهذا الطريق، ولا يكون الأمر كما قاله في النفي، وإن كان مصيبًا في صحة ذلك الطريق، فإن المطلوب كلما كان الناس إلى معرفته أحوج، يسر الله على عقول الناس معرفة أدلة له، فأدلة إثبات الصانع وتوحيده وأعلام النبوة وأداتها كثيرة جدًا، وطرق الناس في معرفتها كثيرة، وكثير من الطرق لا يحتاج إليه أكثر الناس، وإنما يحتاج إليه من لم يعرف غيره، أو من أعرض عن غيره.

وبعض الناس يكون كلما كان الطريق أدق وأخفى وأكثر مقدمات وأطول، كان أنفع له، لأن نفسه اعتادت النظر الطويل في الأمور الدقيقة. فإذا كان الدليل قليل المقدمات أو كانت جلية لم تفرح نفسه به، ومثل هذا قد تستعمل معه الطرق الكلامية المنطقية وغيرها لمناسبتها لعادته، لا لكون العلم بالمطلوب متوقفًا عليها مطلقًا، فإن من الناس من إذا عرف

طور بواسطة نورين ميديا © 2015