غلبةً معنوية عليهم، فيحاولون منعَه. فلذلك رأى أن كتمان أمره أعونُ على مراد الله من خروجه، ورأى الاختفاءَ بعد الخروج ثلاث ليال بغار ثور أقطعَ لطماعية المشركين في اللحاق به وأعجزَ لهم في طلبه، ولذلك كان يسير الليلَ ويستريح النهار. وتلك أيضًا عادةُ العرب في سيرها وقت الحر، وقد كانت الهجرة في زمن الحر.

الهجرة مفارقةُ الوطن على نية عدم الرجوع إليه. وأسبابُها تارة تكون للطمع في نفع يحصل للمهاجر في الموطن الذي ينتقل إليه، وتارة من كراهية الإقامة في الوطن لعداء بين المهاجر وقومه أو لأذى لحقه منهم، وتارة لنشر دعوة أو إظهار فضيلة أو استنصار على عدو أو غير ذلك، فهي أخصُّ من السفر ومن التغرب؛ لأن في السفر والتغرب أملَ العود إلى الوطن. وأيًّا ما كانت غايتُها ومنفعتها، فإنها شديدةُ المضاضة على النفس؛ لأن في مفارقة الوطن مفارقةً لأعلق البقاع بالقلب مما شب فيه المرءُ وأَلِفه، ومفارقةَ قرابته وجيرانه وأحبته، وقد قال أبو الطيب وأجاد:

وَلَوْلَا مُفَارَقَةُ الأَحْبَابِ مَا وَجَدَتْ ... لَهَا المَنَايَا إِلَى أَرْوَاحِنَا سَبُلَا (?)

وسَمَّاها القرآنُ فتنةً في قوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191]، قال المفسرون: أراد إخراجَ المؤمنين من بلادهم مكة. (?)

طور بواسطة نورين ميديا © 2015