وفي هذا التشريع حكمةٌ أخرى عائدة إلى الْخُلُق، وهي الارتياضُ على تلقِّي المكاره برباطة جأش وجلادة، حتى لا يذهب حلولُ المصائب بلب المسلم، ولا يملك سائرَ قلبه، فلا يهتدي للخلاص منها سبيلًا، فذلك من سمو الأخلاق. ولَمَّا كان الغالب في الجاهلية ظهور الحزن في النساء، خصَّ النساءَ بالنهي عن ذلك في أحاديث كثيرة، لا رُخصةَ في شيء منها لشيء من مظاهر الحزن المتعلقة بالذوات من فعل وقول سوى البكاء بلا صوت، وفيها رخصةٌ قليلة لما يتعلق باللباس في حديث النهي عن أضعف هذه الأحوال، وهو لبس السواد وترك الزينة، وهو ما روي في الموطأ وغيره: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحِدَّ على ميِّتٍ فوق ثلاثِ ليال، إلا على زوجٍ أربعةَ أشهرٍ وعشرًا"، (?) أي إذا كانت عدتها بالأشهر. وأما الحامل فتحد مدةَ الحمل؛ لأن عدتها وضعُ حملها، وذلك سدٌّ لذريعة التزويج في العدة حفظًا لحق الميت في إثبات نسبه.

ورخَّص النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - في البكاء بلا صوت مدةَ ثلاثة أيام، ففي كتاب أبي داود عن عبد الله بن جعفر أن رسول الله "أمهل آل جعفر (بن أبي طالب) ثلاثًا أن يأتيهم، ثم أتاهم فقال: "لا تبكوا على أخي بعد اليوم". (?) ورُوي أن الخنساء جاءت المدينة حاجة فدخلت على عائشة - رضي الله عنها - وعلى الخنساء صِدَارٌ من شعر أسود وهي حليقة الرأس، فقالت لها عائشة: "أخناس! قالت: لبيكِ يا أماه، قالت: أتلبسين الصدار وقد نُهِي عنه في الإسلام؟ فقالت: لم أعلم بنهيه". (?)

طور بواسطة نورين ميديا © 2015