وإن إلقاء نظرة واسعة على هيئة مجتمع الأمة الإسلامية يبين للناظر تشابُهًا واضحًا بين أهلها في الأخلاق وما يتبعها من العادات والتقاليد العائلية والنظم الاجتماعية. فيتوسم من هذا التشابه أنه من آثار أصل عظيم هو الذي وحَّد بين مختلف الأمم والقبائل في مقومات الحضارة، ويعلم أن عماد ذلك الأصل هو الإسلام الذي جمع متبعيه بتعاليم فكرية وخلقية وقانونية، حتى أصبحت مع تباين أنسابها ومواطنها ولغاتها تسير سيرةً واحدة، ويكاد اتِّحادُها في الأخلاق والنظام ينطق بينها بالمفاهمة، فتكون الأمة الإسلامية في هذه الحالة مثلًا لقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].

غير أن الناظر إذا قايس بين الخصال التي تحلت بها الأمةُ الإسلامية في قرونها الأولَى وبين ما دب من ذبول وتفكك في قرون بعد تلك القرون الزاهرة كادا أن يأتيَا بالاضمحلال على معظم محاسنها، تَحيَّر لبُّه، وخفق قلبه خشية أن يغيروا من قوامها وجوهرها. فحق على المتأمل البصير أن يفحص أسبابَ تكوين الكمالات ليستعيدها ويستزيدها، وأن يسبر الأدواء فيذودها. (?)

فالواجبُ يدعو إلى أن نبدأ بالنظر في أزهر عصور تخلق المسلمين بأصول الإسلام من زمن النبوة وعصر الخلافة، إذ صار المسلمون أمة مستوفيةً كمالَ الأخلاق والفضائل، مُقَرًّا لهم بِحَقِّ السيادة في العالَم، وأن نقارن بين أحوالهم في تلك العصور السعيدة وبين ما كانوا عليه من قبل. ثم اختلفوا وانحرفوا بما طرأ عليهم من اختلال توازن القوى البشرية الصالحة، وذلك بأسباب عديدة أحدثتها الحوادثُ الملجئة من اختلاف الأنظار، وتباعد الأقطار، وتبلبل الألسن، وضرورة الحاجات. فطوحت بالناس في مناح متنائية، وحادت بهم عن الطريق القويم يومًا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015