غيرَ زمن قليل حتى يبارحنا ملتحقًا بإخوانه من أصناف الحيوان التي أخنَى عليها مرُّ الزمان. فإذا كان [هناك] اليوم مَنْ يتنافس في قرنه يضع الإناء المنحوت منه في مواضع التباهي والفخر، فما نحن ببعيد أن نصير نتنافس في اقتناء عظامه من طبقات الأرض ومصارع الهلاك؛ لنضعها بالمشاهد العمومية والمكاتب الزوولوجية، (?) تعليمًا لِخَلفنا، وتصديقًا لسلفنا.
هذه الأطوارُ التي لحقت كرتنا، فصرعت أصنافًا من الحيوان شديدة القوى، ورمتها رميَ الملتقف أيدي الزيال والنوي، (?) ما نالت من الإنسان ما نالت من غيره، كأن حيلة البشر قد أنجته من حيث لا يجد حيلة، وكأن هذا الضعف الذي كان قرينه - وإن أضرَّ به عند ملاقاة الضواري - فقد نفعه يوم تركه يتعظ بمصارعها، ويربع في مراتعها، كما ينفع اللينُ الصوفةَ حين تدقها المطارق، وأضرَّها حين ترمي بها الرياح فجاج المخارق، لكنها نالت منه شيئًا واحدًا، هو عدم نسبي، وهو الأخذ من العدم؛ فقد كان البشر في أول العالم يبلغ بعيشه إلى ألف من السنين، دام على ذلك يبسط لها يدًا ثم ينْفَضُّ عنها، وما يبعد أحدًا، حتى رمى الله هذا العالَمَ بالطوفان الكبير في آخر حياة نوح - عليه السلام -.
فذلك كان الطورَ الرابع للأرض: أنهك من قواها ما أنهك، وأبرد من حرارتها ما أبرد، يومئذٍ كتب الله على البشر - كما تقول التوراة - أن لا يعيش أكثر من مائة وعشرين سنة، ولكن التوراة أثبتت أن إبراهيم وإسحاق ويعقوب ومَنْ عاصرهما من ذوي الأسماء التاريخية قد جاوزوا بآجالهم هذا العمر المكتوب على