إن العصر والحالة اللذين تيسر لبشارٍ أن يوجد فيهما قد كانا بحكم المصادفة سببًا قويًّا خَوَّل مواهبَه الفطرية النادرة أن تظهر في مظهر الشاعر العربي الفائق المعاني الفصيح البليغ. فقد كان عصرُ الدولة الأموية عصرًا نضِجَتْ فيه الحضارةُ العربية الخالصة، وكان آخرُ ذلك العصر هو آخرَ عهدٍ بالأدب العربي السليم من الدخائل، وكان نزولُ قبائل العرب الخُلَّص حول أول مصر إسلامي عربي، وهو البمرة التي ظهر فيها شباب حضارة إسلامية عربية بريئة من العجمة. وكانت نشأةُ بشار بين ظهراني أولئك العرب الأقحاح.

كان كلُّ ذلك عونًا كبيرًا على تكوين شاعرية بشار، وجمعه مخيلةً تحوي دقةَ المعاني الحضرية الجارية على الذوق العربي، من رفاهية وغرام ومجون وأصالة رأي وسعة علم، ثُم من فصاحة الألفاظ وبلاغة المعاني. فإذا افتقدتَ مجموعَ ما تأتَّى له، وجدتَه لم يتَأتَّ لأحد غيره، مِمَّنْ تقدمه ولا لِمَنْ تأخر عنه. فلذلك كان بحق هو أولَ الشعراء المتأخرين من حيث الوجهةُ الأولى، وآخر الشعراء المتقدمين من حيث الوجهةُ الثانية.

فإذا كان الذين تقدموه - مثل النابغة وحسان وعُمر بن أبي ربيعة والعَرْجِي (?) - قد شاركوه في الفصاحة والبلاغة والمعاني القديمة، فإنهم لم يكتسبوا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015