أن أدعيَ معرفةَ السبب في ذلك، ولا أتذكر أني سألتُه عنه، وخاصة أنه لم يكن درس في الزيتونة أو في فرع من فروعها ولا في غيرها من المدارس القليلة التي كانت موجودةً بتونس خلال الثلث الأول من القرن العشرين، ولا يبدو أن ذلك أثار في نفسي شيئًا في ذلك الطور من حياتي. وغايةُ ما يمكنني قولُه أنَّ والدي بلقاسم - الذي تعلم القراءة والكتابة بسعيه الشخصي ومعاونة بعض زملائه عندما كان مُجنَّدًا في الجيش الفرنسي في منطقة ليون بفرنسا التي كانت تخيم عليها نذرُ الحرب العالمية الثانية - كان كثيرًا ما يتحسَّر على ما فرط والدُه في جنبه بعدم إرساله إلى "المؤدب" ليتعلم، وخاصة أن بعضَ أبناء جيله من أقاربه قد فعل أهلُوهم ذلك حينما جلب الحاج الباشا - أحد أعيان المنطقة - في نهاية العشرينيات أو بداية الثلاثينيات من القرن العشرين مؤدبًا لتعليم ابنيه. وقد تكون معرفته بابن عاشور وجده حصلت عن طريق نجلي الحاج الباشا المذكور (صالح وعلي، وهما ابنا خالته)، أو بواسطة بعض رفاقه أثناء الخدمة العسكرية، أو أثناء حضوره دروسًا في بعض المساجد التي ارتادها في بعض مدن البلاد.
تلك كانت البداية البعيدة وغير الواعية لصلتي بابن عاشور. وعندما كنتُ في السنة الثانية من الدراسة الثانوية بمدينة سيدي بوزيد (التي توقدت فيها شرارة الثورة في ديسمبر 2010)، أذكر أن الأستاذ الذي كان يتولى الإشراف علينا أثناء ما كان يعرف بحصص المراجعة (classes d'etudes) قادنا في أحد أيام عام 1972 إلى المكتبة العامة الوحيدة التي كان يأويها مبنى ما كان يُعرف بلجنة التنسيق الحزبي (للحزب الاشتراكي الدستوري الذي كان يحكم البلادَ بقيادة الحبيب بورقيبة). كان الغرضُ من زيارة تلك المكتبة أن نستعير كتبًا للمطالعة، وكانت مدةُ الاستعارة أسبوعين أو ثلاثة. المهم أنه كان علي، شأني في ذلك شأن بقية التلاميذ في الفصل، أن أستعير كتابًا، وفعلًا تناولت أحدَ الكتب المصفوفة على الرفوف، ولست أدري على أي أساس أخذته، وكان ذلك الكتاب يحتوي على مقدمات تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور في طبعة ذات غلاف ورقي بلون أخضر فاتر. وعدتُ بالكتاب