أفكارهم فيدعها لا تخلص إلا على طريقه، وإن بعض البلاغة -على أي درجاتها- تمهد للسان الرجل أن يذهب بالرأي المذاهب غير حذر، فإنه يعلم أنه يزور كلاما على مدة وتطاول، يلقن إلى من يقرؤه فيتلقفه فيختزنه عقله يعمل فيه عمل الداء الخفي في العضو المصاب به.

ولذلك جاء في الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أخوف ما أخاف على أمتى كل منافق عليم اللسان" وجاء عنه أيضا قوله: "إن الله -عز وجل- يبغض البليغ من الرجال، الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل الباقرة (?) بلسانها" وذلك لأن عمل الكلام في النفس الإنسانية هو العمل الخفي الذي يذهب مع الدم، فإن الجماهير تأخذ الآراء كلاما لم يحذر فيه صاحبه، وتعطيه للدنيا عملا لا يخاف مغبته فاعله. فذلك هو البلاء وهو اللعنة وهو المحق الذي يذهب بصالح أعمال الناس فيجعلها كهباء اشتدت به الريح في يوم عاصف. فواجب الأديب الذي يحرص على أن يكون رجلا مذكورا في الناس ما بقي في الدنيا وبعد زواله منها، أن لا يتركه لسانه يلين كما يلين لسان البهيمة في التمطق بلذيذ الكلأ إذا أصابته وتملأت منه، وإلا فقد اختار لنفسه أسوأ الحالين. فإن العصر الذي هو فيه إن ذكره فذاك، ثم يأتي من بعده عصر فيه يغاث الناس بالعقل الحاكم فيقذفون به وبأدبه في تلك السلال الأبدية العظيمة التي أعدها الزمن لفلان وفلان ممن عرفنا ومن لم نعرف.

فمن الغفلة التي طمست على صاحبها، وسولت للسانه أن يتخلل الكلام من هنا وهنا، أنه جعل الأدب إنما -على هذا الحصر- يزدهر في أزمان الفوضى الاجتماعية. ولو فهم هذا الأديب حق الفهم معنى الفوضى الاجتماعية لم يجرؤ على القول الذي قاله، ولم يحاول بلسنه وتفاصحه، أن يذهب هذا المذهب من الرأي. فإن عصر الفوضى الاجتماعية، شيء غير عصر الصراع الاجتماعي، فإن الفوضى انحلال ذاهب إلى أسفل وإلى طلب الأسفل، والصراع ذاهب إلى الأعلى وإلى درك الأعلى، وبين هذين ما بين ألفي ميل انخسفت في الأرض، وألفي ميل

طور بواسطة نورين ميديا © 2015