شيء، واختلط الحق بالباطل اختلاطا فاسدًا لا أمل في تطهيره إلا بجهد كبير تبذله نفوس هادئة ساكنة حكيمة تتجرد للعمل، وتعمل للحق، وتختار صالح كل شيء، وتنفي فساده وتحريفه وغلوه وغروره ليكون الانتفاع به أقرب لإِنقاذ الإنسانية من مصير مخيف، يرتد بها إلى وحشية الغرائز الدنيا التي تتحكم في مراشد العقل والقلب بغير حكمة ولا روية.
هذه الصورة الدانيةْ الآن للحالة الظاهرة في أوروبا غير ناظرين إلى الاختلاط الفكري القبيح بين المذاهب المتباينة، ولا إلى الفساد الكبير في المبادئ العقلية التي تبنى عليها سعادة القلب الإِنسانى، ولا إلى تشاجر الأهواء الاجتماعية في حرب الفضيلة والرذيلة؛ والخير والشر، والعدل والبغي، ولا إلى انحلال القوى الاقتصادية وتزعزع الأسس المالية، ولا إلى ما يمد كل هذه بأكبر أسباب الفساد إلّا وهو غرور هذه المدنية بعلمها ورأيها وفهمها؛ وادعائها إدراك سر الحقيقة في كل ما تتناوله بالبحث والتحليل.
أما الشرق. . .، فهو الآن يموج ويهتز ويمتد بآماله، ويطالب بحرياته، فبذلك تهيئه ضرورة الحياة الحاضرة لانتزاع الخير المحض مما يقع إليه من مدنية وحضارة، وتهيئه طبيعته الموروثة للاستفادة من نتاج الحضارات والمدنيات قديمها وحديثها، وتهيئه ما انحدر معه في أعصابه من الحكمة القديمة، والرزانة التقليدية، لتعبئة قواه التاريخية كلها، فيأخذ الحضارة الحديثة فيصهرها ويذيبها ويعيد تكوينها موسومة بسمته: الحرية، العدل، الشرف، الفضيلة، سكينة النفس، التقوى تقوى الله في عمل الدنيا وعمل الآخرة، تلك سمات الشرق التي يسم بها مدنيته الجديدة التي يتهيأ اليوم لوراثتها عن سالف الحضارات والمدنيات.