والتوقيع بين يديه. وكان أصحاب (أبي عنان) من أكثر أهل البلاد حسدًا وغيرة، فكادوا لهُ كيدًا عظيمًا لما رأوا من حظوتِه عن السلطان، فلم يجد صاحبنا بدًّا من التقحم في غمرات الدسائس والمكايد، ولعلها وافقت هوى من نفسه، فبرع في الدس والكيد والتلوُّن وإثارة الفِتن حتى اضطرمت في عهده البلاد نارًا من الفتنة كان هو مثيرها حينا ومطفئها أحيانًا. واستمر أمره على ذلك فيما تقلب فيه من أمر الدول المغربية والأندلسية. وليس سبيلنا هنا أن نترجم لابن خلدون ولكنَّا قدَّمنا هذه الكلمة لما كان للدسائس من الخطر في حياة هذا الرجل، وقد استقصى ذلك الأستاذ عنان في كتابه بإيجاز وعرضه على القارئ عرضًا جميلًا. كان هذا الرجل ذكيًّا قادرًا بليغًا دقيق العبارة جيد الإفصاح عن ضمير نفسه، مشرق الفهم رحب الإدراك، يقع لهُ الأمر من الأمور فيفصّله ويبيّنه ويوضحهُ ويجمع إليه القرائن ويجيد القياسَ بين شيءٍ وشيءٍ مما يحدثُ لهُ أو لغيره من الناس فوضَعَ من ذلك في ذهنهِ شيئًا كثيرًا، هو الذي اجتمع لهُ حين ألّف مقدمته المشهورة في الشرق والغرب، فأخرج فيها من الحقائق، والنظريات والأسس في حياة الدولة ما لم يجمعهُ كتاب عربيٌّ قبلهُ. وما ذلك إلا لأنهُ كان -كما أسلفنا- (بليغًا، دقيق العبارة، جيّد الإفصاح عن ضميره نفسهِ).
وأكثر الناس على أن ابن خلدون هو أولُ من اهتدى -من العرب- إلى هذه الحقائق العظيمة التي أثبتها في مقدمته، فهذا صحيح من ناحية، هي أنهُ أول من دوَّنها جميعها بين دفّتى كتاب، ولكنّي لا أشكُّ أن أهل السياسة والرياسة في الدول العربية في الشرق والغرب كانوا يجيدون ما أجاد ابن خلدون من هذا العلْم، وكانوا يعرفون ذلك حقَّ المعرفة، وهناك أدلة كثيرة على ذلك ليس هذا موضعُ إيضاحها وتفصيلها. وأنا لا أظنُّ أن رجلًا مثل (لسان الدين بن الخطيب) الوزير الأندلسيُّ البارع في السياسة والأدب كان يجهل من هذا ما علمهُ ابن خلدون، بل أرجح الظن عندي أن (لسان الدين) كان على شرف من هذا العلم يكاد يفوق به صديقه ابن خلدون إلا أن ما تهيأ لابن خلدون -من البلاغة التي لا صنعة فيها ومن دقة العبارة ومن جودة القياس، ومن براعة الإفصاح عمَّا يترجرج في نفسه وضميره- لم يتهيأ للسان الدين بن الخطيب فقد كان هذا شاعرًا كاتبًا