غرارة ملقاة

إليك عني، أيتها النفس، فأنا وأنت كما قال عبيد بن الأبرص:

إذا أنت حَمَّلتَ الخَؤون أمانةً ... فإنك قد أَسْندتها شَرَّ مُسْنَدِ

وقد أبيتِ عليَّ أن أكتب ما كنت أريد، لأنك أردتِ أن تكوني لي على غير عهدى بك منذ ساعات قلائل. فدعيني أحدث عنك بما أسررت من مضمر أو مكنون.

ما كدت أجلس إلى مكتبى حتى تبعثرت خواطرى، وتهاربت مني أفكارى، وانتشرت على عزيمتى، وتفرقت عني إرادتى، وتطايرت في الآفاق سواكن نفسي، وغادرتنى همتى، وكأنى غرارة ملقاة على مدب الحياة. وربما هجس في نفسي الهاجس، فما أكاد أقول: هذا هو! حتى أجدني على جناح أمر آخر، وإذا بينهما مسيرة ما بين مشرق الشمس ومغربها. فأين المفر! وكيف القرار! لا أين ولا كيف! بل ألتمس مذهبا لا غاية له، لعلى واجد فيه بعض ما أسرى به حيرتى: أن أقيد ما يعن لي -أم ينبغي أن أقول: أن أقيد ما أعن أنا له- على عجل، وبلا ترتيب، وكما يتفق.

ولكن ما نفع هذا لك أنت أيها القارئ؟ هل يعنيك شيئا أن تطلع على حيرة نفس في ساعة من حياتها؛ أم هل يجدى عليك أن تطلع؟ بل مالى ولك! أترانى أكتب لأنفعك؟ ما أسخف هذا! وماذا عندي مما تنتفع به؟ كيف أستطيع أن أدعى أنى أنفع بالذي أكتب آلافا من القراء مثلك؟ وأنى لي علم هذا السحر: أن أجمع في أسطر معدودات حاجة كل نفس؟ أو ليس من السخف، ومن الغرور أيضًا، أن يزعم امرؤ أنه يملك القدرة على نفع أحد، فضلا عن آلاف؟ وما أملك إلا أن أصارحك بأنى ما كتبت قط إلا لنفسي وحدها، ثم لا ألبث أن أعرض عليك ما أكتب -لا لأعلمك أو أنفعك، بل لتعرف كيف يفكر إنسان مثلك!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015