بقى شيء واحد يشق على مثلي أن يرضى عنه، وهو إقحام الأستاذ لأسد الريف الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابى في معرض هذا التناقض المر الشديد المرارة. فهذا البطل الذي نشأنا منذ الصغر ونحن نمجد اسمه، ونسمو بأبصارنا إليه، ونحوطه بقلوبنا وإيماننا، ونجعله المثل الأعلى للعربي الأبى الذي لا يقبل ضيمًا ولا يقيم على هوان، هو نفسه الذي علمنا بفعله لا بلسانه أنه "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء والاستقلال". فقد هبّ أسد الريف وانطلق يجاهد بالسيف، وأبى أن يسلم للفرنسيس والإسبان شيئًا إلا سيفه بعد أن تقطعت أسباب الجهاد بالسيف، وأعرض عن كل مهادنة بينه ويين الفرنسيس والإسبان، واحتمل بلاء النفي والتعذيب صابرًا راضيًا مستعينًا بالله على أعدائه. أفلم يكن مما يرضى الفرنسيس والإسبان أن يهادنهم هذا الأسد ويفاوضهم ويأخذ منهم شيئًا ويسكت عن أشياء؟ بلى، لقد كان يرضيهم ولا شك، ولكنه لم يفعل، فمعنى ذلك كما فهمناه وكما فهمه الناس هو أن أسد الريف يرى رأيًا واحدًا هو أن "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء والاستقلال"، ولذلك احتمل ما احتمل، وصبر صبر المؤمنين الذين لا يفتنهم عن الحق عذاب ولا نفي ولا تشريد. وإذا لم يكن الأستاذ العلمي قد فهم هذا من بطولة أسد الريف، فليحدثنا إذن ماذا فهم؟ وفيم كان صبر أسد الريف وبطل العرب على البلاء الغليظ عمرًا طويلا تحيا فيه رجال وتموت رجال؟ وفيم كان جهاده وقتاله واحتماله رؤية أبنائه وهم يسقطون في ميدان الوغى بين يديه؟ أفعل كل ذلك ليفاوض، فيأخذ شيئًا ويغضى عن أشياء؟ حاشا لله.

أما الأستاذ محمد بن الحسن الوزانى، فأنا لم أرده بإساءة كما أراد الأستاذ العلمي أن يقول، بل كان كل كلامي منصبًا على المبدأ الذي جاء في المذكرة المرفوعة إلى المقيم الفرنسى الجنرال جوان، وهو مبدأ المفاوضة في الاستقلال، وهو مبدأ فاسد لن يسكت قلمي عن هدمه وتقويضه، ولو قال به أعز الناس علي وأكرمهم في قلبي، وهو عندي مذهب أقلية، ولو قالت به أمة بأسرها. وسأبقى ما حييت أدعو الأمم التي ابتليت بالاستعمار إلى مبدأ واحد هو أن "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء والاستقلال"، فهو عندي مذهب أكثرية، ولو لم يقل به إلا فرد واحد طريد شريد لا يجد في الأرض مكانًا يؤويه، أو عشيرة تنصره، أو أذنا تسمعه. وكل حزب يدعو إِلى المفاوضة، فهو عندي حزب بغير شعب ولو تبعته الجماهير

طور بواسطة نورين ميديا © 2015