على أن القضية واحدةٌ، وتجزئتها مفسدة للجزءين كليهما، لسار تاريخ مصر والسودان غير هذا السير الخبيث الذي ساقتنا بريطانيا في سراديبه المضللة المظلمة.

إن الجزء المسمى بمصر من هذا النيل المنحدر من منابعه إلى مصبه في البحر الأبيض المتوسط، جزءٌ يسيرٌ من مجرى هذا النيل، وهو واقع في صحراء جرداء لولا هذا الجزء من النيل لاتَّصلت رمال الجانب الشرقي والجانب الغربي من الصحراء وتصافحت على مسيله. وهذا الجزءُ الخصبُ بمدّ النيل، خط ضيق محصور أكثره بين الجبال والرمال، ولا يرجو أهله منه خيرًا إلا باسم النيل وبماء النيل وبركة النيل. فإذا حبس النيل ماءه أو منع بركته، أو وُجد على الجزء الجنوبي منه (وهو السودان) من يحبس ماءه ويمنع بركته، انقلبت هذه الأرض المصرية نقمة على أهله وشرًّا وبلاءً. والتاريخ يحدِّث منذ قديم الأزمان بأنه ما امتنع ماء النيل أو قل إلَّا حدثت في مصر المجاعات والقحوط التي أهلكت الحرث والنسل، حتى اضطُرّ أهل مصر في كثير من أزمان القحط أن يأكل الرجل لحم أخيه وولده من شدة المَتْرَبة التي حاقت بهذا البلد الخصيب. فالنيل هو كل شيء في بلدٍ لا تمطره السماء إلا غبًّا (?)، وليس فيه ما يُغني أهله عن أن يجعلوا مادة حياتهم وأرزاقهم مما تخرجه الأرضُ التي يكدحون في زراعتها كدحًا شديدًا، والتي لا تنفع فيها زراعة إلا إذا استوفت حظَّها من ماء هذا النيل.

وقديمًا قامت في هذا الجزء الأدنى من النيل أممٌ وحضارات لا تزال آثارها باقية إلى هذا اليوم، وكان أوْلى بقيام هذه الأمم والحضارات الجزء الأعلى وهو السودان، لولا أن أهل الزمن الماضي فرُّوا من وقدات الشمس المحرقة في السودان إلى هذا الجزء الأدنى فأقاموا الحضارات على حفافيه، ولكنهم ما فعلوا ذلك إلا وهم مطمئنون إلى أن الجزء الأعلى ليس فيه دولة قائمة يمكنها أن تردَّ هذا النيل عن مجراه إلى قرارة هذا الوادي الذي سُمى "مصر". ولو كان هناك

طور بواسطة نورين ميديا © 2015