بعض الذكرى. . . .!

كان ذلك منذ عشرين سنة، وكنت فتى لا يملُّ الدُّؤوب والسعي، وكانت أول مرة أدخل فيها بيت ذلك الشيخ (?) الضئيل البدن المعروق اللحم، الذي ينظر إليك أبدًا كالمتعجب. وكان الذي سعى بي إليه حبٍّ قد ملأ قلبي له، وإجلال قد أخذ عليّ العهد أن أفي لهذا الشيخ ما حييت وفاءَ الذكرى ووفاء العلم ووفاء الاقتداءِ؛ وكنت يومئذ قد حضرت بعض دروسه في مسجد البرقوقي، وقرأت عليه شيئًا من كتاب أبي العباس المبرّد، وكان يعدُّني كبعض ولده لسابق معرفته بأبي -رحمهما الله-. وكنت يومئذ سقيم الجسم خفيف اللحم نحيل التجاليد ثائر الشَّعر، فإذا لقيته فربما كان يقول لي: "كأنك آيبٌ من سفر بعيد أيها الفتى". فكنت أفهم عنه، فإذا انقلبت إلى الدار عدوت إلى المرآة لأرى ماذا حمل الشيخ على مقالته التي لم يزل يقولها لي ويدي على يده أو في يده، فما أرى سوى وجه شاحب ضامر، وعينين غائرتين كأنهما تنظران إلى شيء بعيد في جوف وادٍ سحيق عميق. فأقول لنفسي: هذا جُهْد التحصيل وكدُّ النفس في قراءة هذه الأسفار القديمة التي تباعدت معانيها وتقادمت عهودها.

طرقتُ بابه في ذلك اليوم على غير ميعاد، ففتح لي صغير من حَفَدته وقادني إلى غرفة الشيخ، فإذا هو جالس على حشيّة على بساط كالح من تقادم الأيام، وعلى يمينه خزانة كتب مطوية في جوف الجدار، وأمامه صينيّة صفراء من نحاس فيها أداة القهوة، وعلى يساره كتب مركومةٌ، وفي يمناه قلم يكتب. فلما سمع حسّي رفع إليّ بصره وسكن، وظل كذلك ساعة وأنا بين يديه يأخذني ما قرُب وما بَعُد من هيبته، وجعل ينظر إليَّ فأطال النظر؛ ثم لم يلبث أن قال بصوت خافت ما كنت لأتبينه لولا أني عرفت الذي يقول وكنت أحفظه، وهي هذه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015