اسلمي يا مصر. . .!

ظللتُ سنوات معتزلًا أو كالمعتزل، وما اعتزلتُ إلا لأن الحياةَ أرادتني على ذلك فأطعتها، وليتني ما فعلتُ! ثم جاءت أيام حتى كادت تقتلعُ جذور الحياة من أغمض أعماقها في نفسي وفي قلبي وفي سائر بنيانى وحواسى، فانتبهت كالذاهل وأنا لا أدري أحي أنا أم ميت، وإن كان لم يشعر بما أشعر رجلٌ أو رجلان أدركا ما أنا فيه من مِحنة وشقاء. ثم انجلت الغمة وارتفعت الغشاوة، وبدأتُ أرى الدنيا كما ينبغي لمثلي أن يراها، فأقبلتُ عليها أتفحصها كأني أقرأ تاريخًا جديدًا [لم يكن] (?) لي به علم ولا خَبر. ومن يومئذ آثرت أن أُغفل شأن الشعراتِ البيض التي تلتمع على فودىَّ نذيرًا وبشيرًا، وقلت لنفسي: كذب والله عليُّ بن جبلة الخزاعي. فإني لأجد الشعرات البيض أخفُّ على قلبي محملا وأشهى إلى نفسي من كل ما استمتعت به في صدر شبابي، وكيف أشجَى بشيء قد جعله الله بديلًا من جنون الصِّبا وعُرَامِ الشباب (?). وأنا أسوق هنا أبيات عليّ بن جبلة، وإن كان لا حاجة للمقال بذكرها، لأني أعتدُّها من أجود الشعر وأرْصنه وأحسنه تمثيلًا لمقدم الشيب، وأدقه تصويرًا لإحساس الفزع الذي تتجرَّعه النفوس الشاعرة في يوم الكريهة -يوم المشيب. قال يذكر الشيب وقد بلغ الأربعين:

ألقى عَصاه، وأرَخى من عمامته ... وقال: ضَيفٌ. فقلت: الشيبُ؟ قال: أجلْ!

فقلتُ: أخطأت دار الحيّ! قال: ولِمْ؟ ... مضتْ لك الأربعون التِّمُّ! ثم نزَل

طور بواسطة نورين ميديا © 2015