تحقيق لذاتها الروحانية الحلوة التي تبقى حلاوتها خالدةً في الهرم بعد الشباب، وفي العجز بعد القدرة، وفي السكون بعد الحركة وفي الموت بعد الحياة. وتقف الروح متغضنة جافة متكسرة تنظر نظرة متألمة إلى ما يصيب الإنسان من اللذات الطارفة الطارئة التي تتحول في نار الشهوات رمادًا بعد توقد واشتعال.

فاعتزال الروح في هذه المدنية الأوربية قد جعل العالم يعيش ليحترق بأسرع ما يمكن أن يحترق، وهذا هو العلة في امتياز هذه المدنية بالسرعة والنشاط والتوقد، واحتمالها متاعب الجهد المضني في سبيل استغلال أقصى ما يستطيع الإنسان من الإنتاج في العمل، ثم امتيازها بنظام الطبقات الذي تجهد جهدها أن تستره بتلك الزينة الفنية العلمية الظاهرة، لئلا يكون معنى ذلك أن المدنية تريد أن ترتد بالناس إلى الحالة الطبيعية الوحشية اللئيمة التي ينتجها اجتماع همجي مستبد لا يعقل، وإنما يكون فيه اللذة التي تسكر العقل، والظلم الذي يثير العقل، والأثرة التي تطغى العقل.

وجاء اشتراك المرأة اشتراكا عمليًّا في الحياة الأوربية العامة ليقذف الروح بعيدًا في عزلتها، ويدنى غريزة تشتاق إلى غريزة تشوق، فكذلك بدأت الأنظمة الأدبية والاقتصادية والمدنية تخضع لسلطان الأشواق وحدها دون سلطان الروح والعقل، وسلطان الأشواق هو الذي يكون غرضه دائمًا أن يضيق ويتخصص وينفرد بأسباب شوقه، وسلطان الروح والعقل هو الذي يتراحب ويشمل ويعم ويوجد المساواة بين الناس، مهما لقى من العنت والقسوة في وضع النظام الذي يريد أن يجعل به الناس أحرارًا في قيود من الإنسانية السامية المترفعة عن الذل كما تترفع عن بغى السطوة، والتي تستنكر العبودية الخاضعة كما تستنكر الحرية الفوضى، والتي تأبى تحكم طبقة في طبقة كما تأبى ثورة طبقة على طبقة.

ولكن تبرج الحضارة الأوربية في ذلك الخَلق الجميل الفتان ذي الحيلة والفتنة والسحر الذي يعيش في صورة الأنثى، قسر هذه المدنية على الخضوع لسطوة الشوق المتمرّد، فقام النظام كله على هوى واحد إلى المرأة. فالعامل الذي يعمل يريد أن يستغل الحياة بين يديه لا ليعيش ويعيش معه أهله وبنوه وتلك الدولة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015