المعاني التي يتطلبها إحساسه، هذه واحدة. أو لأن مادة هذا المنطق العقلي أفقر من إحساس الشاعر، فهي لا تملك عندها ما يكفي للتعبير عن إحساسه، فهذه أخرى. ولهذه العلة الأخيرة تجد كثيرًا من عامة الناس ليسوا شعراء، ومع ذلك فربما كان أحدهم أدق إحساسًا وأعمق وأعنف، ويكون إحساسه أحفلَ بالمعاني وأغنى، وإنما يقطعهُ عن الشِّعر هذه العلَّة، وهي فقر المنطق العقلي من اللغة التي هي مال له. أو انقطاع المنطق العقليّ دون الوصول إلى المنطقة التي ينقلب فيها هذا المنطق -بكماله وتمامه وقوته واستوائه واستقامته- حاسة دقيقة مدبِّرة تعمل في حياطة الإحساس والقيام عليه وتسديده للغرض الذي يرمى إليه في التعبير عن معاني الإحساس، كما قدمناه آنفًا.

وأما الأمر الثاني -الذي يُخْفِقُ بسببه الشعر في التأثير- فمرَدُّهُ إلى القارئ أو السامع. فإذا كان إحساسُ السامع أو القارئ ضعيفًا بليدًا غثًّا، فمهما يَأتِه من شعر حافل قويٍّ عنيف دقيق العبارة عن إحساس شاعره -فهو لديه شيءٌ فاتِرٌ ضعيفٌ لا يهزُّه ولا يبلغُ منه ولا ينفذُ فيه، وهذا الضرب من العامة الذين لا يتأثرون بالشعر لا يُعتد بهم ولا ينظر إليهم، ولكن هناك ضربٌ آخر يكون بليغ الإحساس جيد التلقي، صالحًا للتأثر بما ينتقل إليه من هزة الإحساس فيهتزُّ لها ويطرب، وقد يكون مع ذلك خِلوًا من اللغة التي يعبِّر بها الشعر، إذ ليس له منطقٌ عقليٌّ سامٍ متخير للكلام يختزن اللغة لنفسه إذا فكَّر، ولفهمه إذا حُدِّث أو أُنشد؛ فهو ربما سمع الشعر الجيد فلم يبلغ منه المبلغ الذي أريد له هذا الشعر، وكثر هؤلاء في عصرنا هذا حتى سقط الشِّعر ولم يحفلْ به إلا قليلٌ؛ وهم لم يكونوا كذلك إلا لفساد التعليم وقلة احتفاله باللغة وبيانها وأسلوب مجازها، ولأن الجهلاء والسخفاء هم سوادُ الناس، وفساد الطبائع فيهم راجعٌ إلى هذين: فمخالطة الجهالة تورث الجهالة والخبال، وترك التعلُّم وسوء التعليم ذريعةٌ مفضيةٌ إلى الجهل والبلادة، فكيف -مع هذين- يخلص أحدهم من فقر العقل وبلادة التأثر بالشعر البليغ الحافل بالإحساس المشبوب العنيف؟

فأنت ترى: أن اللغة المتخيرة المرصدة للتعبير عن الإحساس تعبيرًا مسددًا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015