الحياة، واستنباط النبع القديم الذي ورثته الإنسانية من حياتها الطبيعية الأولى ثم طمتْ عليه أدرانُ المدنيات المتعاقبة.

والشعر والأدب كلاهما عاطفة وإحساس ينبعان من أصل القلب الإنساني؛ هذا القلب الذي أُثبت من داخل بين الحنايا والضلوع ليكون أصفى شيء وأطهرَ شيء وأخفى شيء، وليمس كل عمل من قريب ليصفيه ويطهره ويسدل عليه من روحه شفًّا رقيقًا لا يستر، بل يصف ما وراءه صفة باقية بقاء الروح، ويبرئها من دنس الوحشية التي تطويها في كفن من بضائع الموتى؛ فأيما شاعر أو أديب قال فإنما بقلبه وجب أن يقول ومِن داخله كُتِبَ عليه أن يتكلم، وإنما اللسان آلة تنقل ما في داخل إلى خارج حَسْب؛ فإن كلفها أحد أن تنقل على غير طبيعتها في الأداء -وهي الصلة التي انعقدت بينها وبين القلب على هذا القانون- فقد أوقع الخللَ فيها ووقع الفسادُ والتخالف والإحالة والبطلان فيما تؤدّيه أو تنقله.

وقد نشأ الرافعي من أوّليته أديبًا يريد أن يشعر ويكتب ويتأدّب، وسلخ شبابه يعمل حتى أمكنته اللغةُ من قيادها وألقت إليه بأسرارها فكان عالمًا في العربية يقول الشعر، ولو وقف الرافعي عند ذلك لدرج فيمن درج من الشعراء والكتاب والعلماء الذين عاصروه، ولو أنه استنام إلى بعض الصيت الذي أدركه وحازه واحتمله في أمره الغرور لخف من بعدُ في ميزان الأدب حتى يرجح به مِن بعدُ مَنْ عسى أن يكون أخفَّ منه؛ ولكن الرافعي خرج من هذه الفتن -التي لفّت كثرةَ الشعراء والأدباء والتقمتهم فمضغتهم فطحنتهم ثم لفظتهم- وقد وَجد نفسَه واهتدى إليها، وعرف حقيقة أدبه وما ينبغي له وما يجب عليه. فأمَرَّ ما أفاد من علم وأدب على قلبه ليؤدّى عنه، وبرئ أن يكون كبعض مشاهير الكتاب والشعراء ممن يُطيح بالقول من أعلى رأسه إلى أسفل القرطاس، وللقارئ من قنابله بعد ذلك ما يتشظَّى في وجهه وما يتطاير. لهذا كان الرافعيُّ من الكتاب والأدباء والشعراء الذين تُتخذ حياتُهم ميزانًا لأعمالهم وآثارهم، ولذلك كان كتاب "سعيد" عن حياته من الجلالة بالموضع الذي يسمو إليه كل مبصر، ومن الضرورة بالمكان الذي يلجأ إليه كل طالب.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015