شيئًا فشيئا، منذ تلك الأيام الغوابر، بدأت أحس في الشعر الجاهلي، وفي غير الشعر الجاهلي، شيئًا ينبعث منه، دبيب حركة تترك في نفسي آثارا خفية غريبة. فإذا عدت استبطنه مترنما به، متأملا في طواياه، عاد دبيب الحركة، حركة لا أدري ما هي؟ فهذا هو الذي قلت إنه كان من ديدنى بعد ذلك أن أحدث عنه أساتذتي الكبار الذين خالطهتم وعرفتهم يومئذ وتأخذنى النشوة وأنا أفاوضهم فيما أحس به: "فكان يعرض منهم عني من يعرض. ويربت على خيلاء شبابى من ربت بيد لطيفة حانية"، كما وصفت ذلك في كتابى (المتنبي 1: 12، 15). ومن أغرب ما لقيت من الإعراض عما أقول، إعراض الشيخ المرصفي نفسه عن حديثي مرات، وهو نفسه الذي أثارنى إلى هذا وحركنى هو وحده دون سواه! ولكني لم أكف عن الإلحاح عليه، حتى كانت نهاية إعراضه عني، حين فهم عني ما كان لسانى يعجز عن بيانه وعن التعبير عنه. فإذا هو بعد ذلك راض عني مقبل عليّ، يفيدنى الفوائد، ويسدد لي خطاى في هذا الطريق الوعر المسالك والمضايق، المتشابك المناهج والشعاب. كان هذا أول ممارستى للذى سميته فيما بعد "التذوق"، مكان "الاستبانة"، ولكنها على ذلك كله، كانت ممارسة جاهلة جافية غامضة بلا منهج صحيح آوى إليه وأستعين به. كان ذلك في سنة 1925، وما بعدها.
وبعد سنة دخلت الجامعة، وكان من أمر الدكتور طه وأمرى ما كان، حتى كان اليوم الذي اضطررت فيه اضطرارا أن أقف الموقف الذي دفعت إليه بغتة أجادل الدكتور وأناقشه في "مسألة الشعر الجاهلي"، صارِفا همي كله إلى موضوع "المنهج" و"الشك" وإلى ضرورة قراءة الشعر الجاهلي والأموى والعباسى قراءة "متذوقة" مستوعبة لنستبين الفرق بين الشعر الجاهلي والشعر الإِسلامى، قبل الحكم على الشعر الجاهلي بأنه شعر صنعته الرواة المسلمون في الإِسلام، كما بينت ذلك في كتابى (المتنبي 1: 23) ثم في مقالتي الأولى هنا أيضًا. وفي غضون هذا الموقف المتطاول بيننا حتى فارقت الجامعة. كان اللفظ الناشب في لسانى وفي ألسنة الكُتَّاب، وهو "التذوق" بمعناه المشهور الغامض