وحده أعدت له في موازين العقول، وليس قيام المدنيات بأجزائها على "العقل" حتى يمكن أن يقال إن العقل المصري هو الذي استطاع أن يبقى خالدًا والمدنيات من حوله تفنى وتبيد. حقًّا إن مصر -وغير مصر من الأمم التي كانت منزلًا لمدنيات كثيرة متباينة- قد احتفظت مع هذه المدنيات بأشياء امتازت بها، ولكن هذه الأشياء المميزة لم يكن مرَدُّ أكثرها إلى العقل بل كان مردها إلى الطبائع التي أنشأتها إرادة الإقليم المسيطرة على الطبائع الإنسانية، وإلى العادات المتوارثة التي لم تقاومها هذه المدنيات مقاومة الحرب والإبادة، فلذلك بقيت هذه المميزات قائمة سائرة متعارفة، فيخيل لبعض من لم يَغُرْ إلى أعماق هذه المخلفات أنها ظواهر عقلية مع أن الحق غير ذلك. .

ونحن نجد الجنس من الناس ينزل أرضًا غير أرض، فما يمضي الجيل أو الجيلان حتى تفنى المميزات الجنسية في نسلهم من أبنائهم وأحفادهم، ويبدأ الوطن الجديد بطبيعته المستبدة في تحويل هذا النسل إلى طبائعه التي تلائم تربته وسماءه وجوه وحاجات سكانه، فكذلك المدنيات إذا نزلت أرضًا خضعت لما يخضع له الإنسان الحي المتحدر من أصلاب قوم غير سكانه الأوائل، وجعلت تتميز بضرورات الإقليم الطبيعية.

ولماذا يريد كثير من الكتّاب أن يجعلوا عقول أممهم بدْعًا في العقل الإنساني؟ لا أدري، وما يكاد يدري أحد من هؤلاء ما هو العقل، وكيف يتميّز في الإنسان، أو كيف يتبيَّن في الأفكار أو المدنيات مكان العقل من مكان غيره من الغرائز والطبائع والدوافع وما إلى ذلك من الأشياء التي تشترك في نتاج الفرد ثم في إنشاء المدنيات الاجتماعية؟ ولو استطاعوا لأبانوا لنا -على كثرة ما يقولون- عن موضع واحد يقولون فيه هذا "صنع العقل" الفلانِيّ. إن العقل المصري كغيره من العقول يقبل كل شيء، ولكن طبائع الإقليم تريد أشياء وتنفي أشياء لأنها لا تستطيع البقاء في سلطانها. إن جوهر الأشياء كلها لا يتغير في العقل بعد العقل، ولكن الأعراض هي التي يصيبها التبدُّل والتغيير لأنه من طبيعتها أوّلُ، ولأن العقل لا يعمل فيها عملًا إلا للتدبير والتصريف وحسب.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015