إساءتى. فمن الذي أنبأك أيها العزيز الكريم أنى أعد الذي يظهرنى على أخطائى، أو الذي لا يعجبه ما أكتب، مريدا لإساءتى، مثيرا لغضبى، طالبا للغض مني أو من كتابي؟ من أنبأك هذا، حتى تبالغ في التنصل من اعتماده، وفي البراءة من إرادته؟ لقد قدمت بين يدي كتابى عن المتنبي قصة هذا الكتاب. وبينت أنها: "لمحة من فساد حياتنا الأدبية". فكان مما أشرت إليه أنه كان من عادة "الأساتذة الكبار"، وهي عادة بثت في حياتنا الأدبية إلى هذا اليوم فسادا ساحقا: أنهم كانوا يخطئون في العلن. ويتبرأون من أخطائهم في السر. (المتنبي 1: 42). وأشرت أيضا إلى أنهم كانوا لا يصبرون على من يدلهم على الخطأ، ويستنكفون كبرا أن يؤوبوا إلى الصواب. ثم أزيدك الآن أيضا: أنهم كانوا لا يتورعون عن الإيقاع بمن يدلهم على الخطأ، ويتعقبونه بالأذى من وراء حجاب: ومَنْ طلب الأمثلة على هذا وجدها على مَدّ يده!

بيد أنى، من يوم عقلت أمر نفسي، قد أنكرت جميع السنن التي سنها "الأساتذة الكبار"، أنكرتها كفاحا ومواجهة وبلا مواربة. فبئس المرء أنا إذن، إذا أنا أنكرت سنة كريهة ثم ركبتها! كانوا، رحمهم الله جميعا، لا يحبون إلا الثناء المحض المصفّى الخالص من كل شائبة. فإذا جاءهم غير ما يحبون، تنمَّروا لمن أتاهم به تنمُّرَ من لا بيت على دِمنة - (والدمنة: الحقد الدفين المضمر الملتهب بالغيظ). وهم يتخلّقون، في غير موضع التخلُّق، بما قاله بشار الأعمى في صفة عمر بن العلاء، فاتح طبرستان في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور. وكان عمر قبل ذلك جزارا، ولم تعبه الجزارة، بل كانت له أسوة حسنة بفاتح مصر عمرو بن العاص - رضي الله عنه - فإنهم يزعمون أنه كان جزارا في الجاهلية، قبل أن يسلم. قاتل عمر بن العلاء الديلم قتالا مريرًا حتى كسر شوكتهم وأخضعهم، فلذلك ولاه المنصور ثم المهدي من بعده، طبرستان مرات، منذ سنة 141 من الهجرة إلى سنة 167، كان عمر عاقلا داهية جوادا شجاعا شديد البأس، فقال بشار للخليفة في شأنه:

فقلْ للخليفة إن جئته ... نَصيحا ولا خير في مُتَّهَمْ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015