حكم بلا بينة

يوشك تاريخ الإسلام أن يصبح لهوًا على الألسنة، ولغوًا في الصحف، ومرتعًا للظن المتسرع دون اليقين المتثبت، وهدفًا لكل متقحم (?) على الحق بمثل جراءة الباطل، ومخاضة يخوض فيها كل من ملك لسانًا ينطق، أو عقلا يفكر، أو قلما يخط. وإنما ابتلى زماننا بهذا لأسباب كثيرة، أولها: أن العصر الذي نعيش فيه يُعجل الناس عن تحقيق معنى الدين نفسه في حقيقة قلوبهم. وآخرها: أن المسلمين في زماننا بلغوا من العجز والقلة والهوان على أنفسهم مبلغًا مهد لشياطين الإنس والجنّ مسالك كثيرة إلى مقر الغرور في بعض الأفئدة، فسوّل لأصحابها فيما يسول أن فهموا الإسلام "فهمًا جديدًا"، فكان لهذه الكلمة سحرها حين مست مكان الغرور والكبرياء من نفوسهم، واحتملهم هذا الغرور على أن يسيئوا الظن بما يفهمون من ماضيهم، جله أو كله، وخيل إليهم سوء الظن أن ذلك هو طريق الحق لإحياء دين الله في نفوسهم وإقامة شريعته في أرضه. ثم خرج بهم مخرجًا أوقع في أوهامهم أنهم قادرون على أن يجددوا أمر هذا الدين، بمجرد النظرة الخاطفة المعتسفة في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وفي تاريخ أسلافهم من المسلمين.

ولا أظننى أخطئ شيئا في التقدير إذا زعمت أن هذه النابتة، لم يبتل الإسلام بمثلها قط، على كثرة ما انتابه من النوابت المتتابعة على مدى عصوره كلها؛ في حال بأسه وسطوته، رفي حال ضعفه وفترته. وهي عندي أخطر النوابت جميعا وأخوفها على دين الله، لأنها نجمت في عصر قد حطم جميع القيم الإنسانية العتيقة، ودمر تراث الأخلاق التي فطر عليها ولد آدم في الآباد المتطاولة. ولا أسيئ الظن فأدعى أنهم يأتون ما يأتون عن عمد، بل أقول إن وباء هذا العصر

طور بواسطة نورين ميديا © 2015