ومن هذه الأحاديث، حديث على ماهر المنشور في الأهرام (السبت 22 سبتمبر الحالي) وقد سئل عن مشكلة السودان فكان جوابه: "ويخيل إلى أنه ينبغي أن نتدبر حقوق السودان وحقوق مصر، والمصالح البريطانية. ففيما يتعلق بالمصالح البريطانية، فإن الرأي عندي -حتى أثناء مفاوضات 1946 - أن تلك المصالح تلخص في مسائل اقتصادية، ومشاكل مواصلات ومطالب استراتيجية ويمكن الاهتداء إلى حل لكل من هذه المسائل يرضى بريطانيا" يا للعجب! "يرضى بريطانيا"! !

وتصوير المشكلة على هذا الوجه اللطيف البسيط غريب جدا! . ولو أنت جعلت آخر هذه الفقرة: "ويمكن الاهتداء إلى حل لكل من هذه المسائل يرضى مصر"، ثم نسبت الحديث إلى إيدن مثلا، لكان كلاما مستقيما مع السياسة البريطانية، لا لبس فيه ولا إبهام، وكلنا قد قرأ مثله للساسة البريطانيين، وفي الصحافة البريطانية، مصورا لهذه المشكلة بنفس الأسلوب، إن لم أقل بنفس الألفاظ. لم يقولوا قط أن السودان ملكا لهم، بل قالوا أن لهم فيه مصالح اقتصادية، واستراتيجية يحافظون عليها، بل هم زعموا أنهم يحافظون على رفاهية السودان واستقلاله. بل أقرب من ذلك أنهم زعموا منذ قديم أن بقاءهم في مصر نفسها ليس إلا للمحافظة على مصالحهم الاقتصادية والحربية والمواصلات البريطانية، وسلامة الأمن العالمى أخيرًا، وأن هذا البقاء ليس احتلالا بل هو بعض واجبات الصداقة المتينة بين مصر وبريطانيا! !

ولا أظن أن في الدنيا العاقلة مفكر يستطيع أن يفرق كثيرا بين الاحتلال وبين هذه الصداقة المتينة، إلا أن يكون قد زال من نفسه كل معنى من معاني الشعور بالعدل المجرد، ولا أقول أنه قد زال من نفسه كل معنى من معاني الشعور بالكرامة الإنسانية، وبالبلاء الماحق الذي نراه ماثلا في تاريخ الاستعمار، منذ انقض على بلاد الشرق كله، والعالم العربي والإسلامي، من أطرافها، حتى احتل القلب، في هذه النقطة التي يسمونها الآن: الشرق الأدنى.

ولست أدري كيف يستطيع سياسي أن يجهل أن وجود المصالح الاقتصادية،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015