وكادت الثورة تندلع في سنة 1946، ولكن سرعان ما حولت عن وجهها، إلى الخديعة الكبرى المعروفة بتعديل المعاهدة، وشغل الناس بها زمنا طويلا، وانبعث أشقاها يتولى حوك هذه الخديعة وإطالة أمدها، وهو بطل قديم من أبطال الساسة الدجاجلة صنائع الاستعمار. وأفلح الخبيث، وفازت بريطانيا بعض الفوز. ولكن لابد من تبديد الطاقة، فإنها أكبر من أن تقضى عليها خديعة واحدة. فإذا بريطانيا تمكن لليهود كل التمكين هي وأعوانها، وإذا الدول العربية جملة واحدة تنزلق إلى ما تريد، فتدخل حرب فلسطين بجيوشها، وإذا الهزيمة المنكرة، وما تبعها من اضطهاد وتشريد واستبداد ومخاوف بالليل والنهار. ولم تكد تنتهي هذه الخديعة، حتى جاءت الانتخابات المضحكة التي انتهت بمجيئ الوفد فجأة إلى الحكم، بعد اليأس كل اليأس من عودته. وما هو إلا قليل، حتى أثيرت القضايا الكثيرة الملوثة التي شغلت القلوب والعقول، ثم انتهت أيضا بما نعلم من الركود والخيبة، وانتصار الخيانات وأصحاب الخيانات. وفجأة ينبعث من كل مكان ضجيج وعجيج في فضائح الاستبداد والظلم والاستبداد والفجور وتبديد الأموال وقضايا الحرية.

وأخيرا ينفجر في هذا الجو الصاخب الثائر، صخب أشد منه. من أين؟ من معسكر الحكومة: إلغاء المعاهدة، إلغاء المعاهدة!

في كل حادثة من هذه الحوادث التي ذكرتها، والتي لم أذكرها، فزعت الأمة كلها: شيبها وشبانها، جاهلها وعالمها، ثم انقلبت يائسة قانطة، وثارت ثم سكنت، واندفعت ثم ارتدت، وغلت ثم فترت. وضاع قسط وافر من الطاقة المختزنة في الشعب شيئا فشيئا. وبدد سخط الألسنة عزائم القلوب. يا لها من نكبة!

ثم يجئ إلغاء المعاهدة، فإذا لسان ثائر يتولى تعبئة الشعب لإلغاء المعاهدة، وهو لسان من ألسنة الحكومة الضالعة مع الاستعمار. وينطلق الشعب يردد: إلغاء المعاهدة! بيد أن الحكومة -كما قلنا آنفا- تذهب في إلغاء المعاهدة مذهبا، أما الشعب فيذهب في الحقيقة مذهبا يناقضه كل المناقضة. فيا له من إشكال عسير معقد!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015