ولم يجز لهم أن يعودوا إلى الإقامة فيها؛ ولذلك لما مرض سيدنا سعد بن أبي وقاص بمكة في حجة الوداع بكي وقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قد خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها كما مات سعد بن خولة). فدعا له الرسول بالشفاء وقال: "اللهم امض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة". قال ابن أبي وقاص: (يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن توفي بمكة).
فكان المهاجرون يحجون ويعتمرون، دخلوا مكة فاتحين، وكانوا يدخلونها زائرين، ولم يكن لأحد منهم أن يقيم فيها إلا على قدر حاجته، وهو يرى بلده الذي ولد فيه ونشأ، ويرى أهله وإخوانه، وتتوق نفسه إلى ذكريات صباه، ثم هو يغالب هواه ويطيع أمر ربه فيعود إلى دار هجرته قد باع نفسه وماله إلى الله، وخرج عن كل شيء في الدنيا، إلا أن تكون كلمة الله هي العليا، ولذلك ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي الذي سأله عن الهجرة: "ويحك إن الهجرة شأنها شديد". وقال: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا". وقال لمن أراد أن يبايعه على الهجرة: "إن الهجرة قد مضت لأهلها".
إن هؤلاء السادة المهاجرين لم يهاجروا ليكونوا رهبانًا في أديار، لا مقصد لهم إلا الصلاة والصيام، وقد كان ذلك ميسورًا لهم في بلدهم وبين قومهم، وإنما هاجروا ليقيموا دولة الإسلام، وليكونوا حكام الأرض وسادة الدنيا، ثقة بما وعدهم ربهم على لسان نبيهم،