وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ تَطْهِيرُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ عَلَى الْبَدَنِ أَوْ غَيْرِهِ. (وَفِي تَرَجُّلِهِ) : بِضَمِّ الْجِيمِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ تَمْشِيطِ شَعْرِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ. (إِذَا تَرَجَّلَ) : أَيْ وَقْتَ إِيجَادِ هَذَا الْفِعْلِ وَفِي مَعْنَاهُ التَّدْهِينُ. (وَفِي انْتِعَالِهِ) : أَيْ لُبْسِ نَعْلِهِ. (إِذَا انْتَعَلَ) : أَيْ وَقْتَ إِرَادَةِ لُبْسِ النَّعْلِ، وَفِيهِ احْتِزَازٌ مِنْ حَالِ الِاخْتِلَاعِ فَإِنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالْيَسَارِ تَشْرِيفًا لِلْيَمِينِ وَمُرَاعَاةً لِكَرَامَتِهَا أَيْضًا، وَفِي مَعْنَاهُ لُبْسُ الثَّوْبِ وَالْخُفِّ وَنَحْوِهِمَا بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَأَمْثَالِهَا مِمَّا هُوَ مِنْ بَابِ التَّكْرِيمِ: كَالْأَخْذِ، وَالْعَطَاءِ، وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْبَيْتِ، وَحَلْقِ الرَّأْسِ، وَقَصِّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمِ الظُّفْرِ، وَنَتْفِ الْإِبْطِ، وَالِاكْتِحَالِ، وَالِاضْطِجَاعِ، وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَالِاسْتِيَاكِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفَمِ وَالْيَدِ جَمِيعًا، بِخِلَافِ مَا لَا شَرَفَ فِيهِ كَخُرُوجِ الْمَسْجِدِ، وَدُخُولِ الْخَلَاءِ، وَأَخْذِ النَّعْلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ بِالْيَسَارِ كَرَامَةٌ لِلْيَمِينِ أَيْضًا. قَالَ النَّوَوِيُّ: قَاعِدَةُ الشَّرْعِ الْمُسْتَمِرَّةُ اسْتِحْبَابُ الْبَدَاءَةِ بِالْيَمِينِ فِي كُلِّ مَا كَانَ مِنْ بَابِ التَّكْرِيمِ وَالتَّزَيُّنِ وَمَا كَانَ بِضِدِّهِ فَاسْتُحِبَّ فِيهِ التَّيَاسُرُ، وَيَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَفِي طَهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ. وَمَا فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ يَأْخُذُ بِيَمِينِهِ، وَيُعْطِي بِيَمِينِهِ، وَيُحِبُّ التَّيَمُّنَ فِي جَمِيعِ أَمْرِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى اسْتِثْنَاءِ مَا لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّكْرِيمِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيُمْنَى لِطَهُورِهِ وَطَعَامِهِ، وَكَانَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى لِخَلَائِهِ وَمَا كَانَ مِنْ أَذًى. قَالَ
النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْيُمْنَى فِي الْوُضُوءِ سُنَّةٌ، مَنْ خَالَفَهَا فَقَدْ فَاتَهُ الْفَضْلُ وَتَمَّ وُضُوءُهُ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: مُرَادُهُ بِالْعُلَمَاءِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَإِلَّا فَمَذْهَبُ الْإِمَامِيَّةِ الْوُجُوبُ وَمِمَّنْ نَسَبَ الْوُجُوبَ إِلَى الْفُقَهَاءِ الشِّيعَةُ. وَفِي كَلَامِ الرَّافِعِيِّ مَا يُوهِمُ أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ بِوُجُوبِهِ وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ عَنْهُ، بَلْ قَالَ الشَّيْخُ الْمُوَفَّقُ فِي الْمُغْنِي: لَا نَعْلَمُ فِي عَدَمِ الْوُجُوبِ خِلَافًا. يَعْنِي مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَغَلِطَ الْمُرْتَضَى عَلَمُ الْهُدَى فَنَسَبَ الْوُجُوبَ إِلَى الشَّافِعِيِّ وَكَأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ مِنْ قَوْلِهِ بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ لَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْعُضْوِ الْوَاحِدِ وَلِأَنَّهُمَا جُمِعَا فِي لَفْظِ الْقُرْآنِ، لَكِنْ يُشْكِلُ عَلَى أَصْحَابِهِ حُكْمُهُمْ عَلَى الْمَاءِ بِالِاسْتِعْمَالِ إِذَا انْتَقَلَ مِنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ مَعَ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْمَاءَ مَا دَامَ مُتَرَدِّدًا عَلَى الْعُضْوِ لَا يُسَمَّى مُسْتَعْمَلًا، انْتَهَى كَلَامُهُ. وَفِيهِ أَنَّ التَّرْتِيبَ إِنَّمَا يُفِيدُ بَيْنَ الْأَجْنَاسِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَمَّا التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَمْثَالِهِ، وَفِي أَمْثَالِهِ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّيَامُنِ دُونَ وُجُوبِهِ، فَبَطَلَ قَوْلُ الشِّيعَةِ وَظَهَرَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَمَّا وَجْهُ عَدَمِ اعْتِبَارِ غَسْلِ الْوَجْهِ وَمَسْحِ الرَّأْسِ بِالْيَمِينِ فَلِدَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ فِي تَحْقِيقِ تَيَامُنِهِمَا وَتَيَاسُرِهِمَا كَمَا فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ ابْتِدَاءً وَمَسْحِ الْأُذُنَيْنِ، قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ: يُسْتَثْنَى مِنْ تَقْدِيمِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الْوُضُوءِ مَسْحُ الْأُذُنَيْنِ فَلَا يُسَنُّ فِيهِمَا تَقْدِيمُهُ عَلَى الصَّحِيحِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَيْسَ فِي أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ عُضْوٌ لَا يُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ الْأَيْمَنِ مِنْهُنَّ فِي تَطْهِيرِهِ إِلَّا الْأُذُنَيْنِ. قَالَ مِيرَكُ: وَفِي الْأُذُنَيْنِ وَجْهٌ نُقِلَ عَنِ الْبَحْرِ لِلرُّويَانِيِّ فِي تَقْدِيمِ مَسْحِ الْيُمْنَى مِنَ الْأُذُنِ. أَقُولُ: يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ إِذَا أَرَادَ الْجَمْعَ بَيْنَ مَسْحِهِمَا وَيُسْتَحَبُّ حَالَةَ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ قَوْلُ الْعِصَامِ «إِذَا تَنَعَّلَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ «إِذَا انْتَعَلَ» مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ وَالنُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ فِي أَنَّهَا مِنْ بَابِ الِافْتِعَالِ الْمُنَاسِبِ لِمَصْدَرِهِ الْمَذْكُورِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ كَلَامِهِ سُكُوتُ الشُّرَّاحِ عَنْ خِلَافِهِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: وَكَأَنَّ الرَّاوِيَ لَمْ يَحْفَظْ تَتِمَّةَ الْحَدِيثِ، وَهُوَ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ عَلَى مَا فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مَطْعَنٌ مَرْدُودٌ، فَإِنَّهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ لِأَنَّ الْحَدِيثَ وَقَعَ فِي إِسْنَادِ التِّرْمِذِيِّ بِهَذَا الْمِقْدَارِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ بِالزِّيَادَةِ، وَزِيَادَةُ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْطِيعُ الْحَدِيثِ وَإِتْيَانُ بَعْضِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُحَدِّثِينَ ; وَبِهَذَا تَبَيَّنَ ضَعْفُ قَوْلِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ هِيَ مَخْصُوصَةٌ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: «وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ» ، فَمَنْ قَالَ: الْمُرَادُ هَذِهِ الْأُمُورُ لَا بِخُصُوصِهَا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: «وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ» ، اسْتَمَدَّ مِمَّا يُفِيدُ خِلَافَ الْمَقْصُودِ، انْتَهَى. وَهُوَ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ لِأَنَّ الْحَدِيثَ عَلَى مَا وَقَعَ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَا خِلَافَ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ بَابِ تَعْمِيمٍ بَعْدَ تَخْصِيصٍ، وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ فَظَاهِرُ الِانْحِصَارِ فِي الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَعَمُّ بِقَرِينَةِ حَدِيثِهِمَا مَعَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَدِيثُهُمَا لَكَانَ فِيهِ مَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ الْعُمُومُ أَيْضًا ; لِأَنَّ الْمَذْكُورَاتِ هِيَ جُزْئِيَّاتٌ كَالْأَمْثِلَةِ تَحْتَ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ قَوْلِهَا يُحِبُّ التَّيَمُّنَ، هَذَا وَذَكَرَ مِيرَكُ أَنَّهُ وَقَعَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنِ الْأَشْعَثِ بِإِسْنَادِهِ بِلَفْظِ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطَهُورِهِ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ. كَذَا
أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ