الْجِنْسِيَّةِ فِي مُشَارَكَةِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَسَائِرِ الْقَوَاعِدِ الْحَنِيفِيَّةِ، وَإِمَّا لِإِرَادَةِ الْفَهْمِ وَتَقْرِيبِهِمْ إِلَى الْحَقِّ فَإِنَّهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْإِيمَانِ، فَهُمْ بِالْأُلْفَةِ أَحَقُّ وَأَلْيَقُ، قَالَ مِيرَكُ: فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِبَقَايَا مِنْ شَرَائِعِ الرُّسُلِ، فَكَانَتْ مُوَافَقَتُهُمْ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ مُوَافَقَةِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَجِئْ فِي شَرْعِنَا بِمَا يُخَالِفُهُ، وَعَكَسَهُ بَعْضُهُمْ وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْعٍ لَنَا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَقُلْ «يُحِبُّ» بَلْ كَانَ يَتَحَتَّمُ الِاتِّبَاعُ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ; لِأَنَّ الْقَائِلَ بِهِ يَقْصُرُهُ عَلَى مَا وَرَدَ فِي شَرْعِنَا أَنَّهُ شَرْعٌ لَهُمْ لَا مَا يُؤْخَذُ عَنْهُمْ إِذْ لَا تَوْثِيقَ بِنَقْلِهِمْ، قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِ مُوَافَقَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ فِيهِ شَيْءٌ فَقِيلَ: فَعَلَهُ ائْتِلَافًا لَهُمْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَمُوَافَقَةً لَهُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، فَلَمَّا أَغْنَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ خَالَفَهُمْ فِي أُمُورٍ كَصَبْغِ الشَّيْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، انْتَهَى. حَيْثُ وَرَدَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ، وَمِنْهَا صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، ثُمَّ أَمَرَ بِنَوْعِ مُخَالَفَةٍ لَهُمْ فِيهِ بِصَوْمِ يَوْمٍ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، وَمِنْهَا اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، وَمُخَالَفَتُهُمْ فِي مُخَالَطَةِ الْحَائِضِ، وَمِنْهَا النَّهْيُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ السَّبْتِ، وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ فِي النَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِ، وَصَرَّحَ أَبُو دَاوُدَ بِأَنَّهُ الْمَنْسُوخُ، وَنَاسِخُهُ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُومُ يَوْمَ السَّبْتِ وَيَوْمَ الْأَحَدِ يَتَحَرَّى ذَلِكَ وَيَقُولُ: «إِنَّهُمَا يَوْمَا عِيدِ الْكُفَّارِ وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أُخَالِفَهُمْ» . وَفِي لَفْظٍ: مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَانَ أَكْثَرُ صِيَامِهِ يَوْمَ السَّبْتِ وَالْأَحَدِ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: «يَوْمَا عِيدٍ» أَنَّ السَّبْتَ عِيدُ الْيَهُودِ، وَالْأَحَدَ عِيدُ النَّصَارَى. وَقَالَ آخَرُونَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَمَرَ بِاتِّبَاعِ شَرَائِعِهِمْ فِيمَا لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ، وَعَلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يُبَدِّلُوهُ. (ثُمَّ فَرَقَ) : بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ. (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ) : أَيْ شَعْرَهُ بِأَنْ أَلْقَى شَعْرَ رَأْسِهِ إِلَى جَانِبَيْهِ وَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا عَلَى جَبْهَتِهِ، قَالُوا: وَالْفَرْقُ سُنَّةٌ لِأَنَّهُ الَّذِي رَجَعَ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ بِوَحْيٍ لِقَوْلِهِ: «مَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ» . وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: نُسِخَ السَّدْلُ فَلَا يَجُوزُ فِعْلُهُ وَلَا اتِّخَاذُ النَّاصِيَةِ وَالْجُمَّةِ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ جَوَازُ الْفَرْقِ لَا وُجُوبُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْفَرْقَ كَانَ اجْتِهَادًا فِي مُخَالَفَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا بِوَحْيٍ، فَيَكُونُ الْفَرْقُ مُسْتَحَبًّا، انْتَهَى. وَلَعَلَّ حِكْمَةَ عُدُولِهِ عَنْ مُوَافَقَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ هُنَا أَنَّ الْفَرْقَ أَقْرَبُ إِلَى النَّظَافَةِ وَأَبْعَدُ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي غَسْلِهِ وَعَنْ مُشَابَهَةِ النِّسَاءِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الَّذِي يَتَّجِهُ أَنَّ مَحَلَّ جَوَازِ السَّدْلِ حَيْثُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّشَبُّهَ بِالنِّسَاءِ وَإِلَّا حُرِّمَ مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ، انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُ جَوَازَ السَّدْلِ مَا رُوِيَ أَنَّ مِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ يَسْدِلُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْرِقُ، وَلَمْ يَعِبْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَلَوْ كَانَ الْفَرْقُ وَاجِبًا لَمَا سَدَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالْجُمْهُورِ، وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ: الصَّحِيحُ جَوَازُهُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ:
وَزَعْمُ نَسْخِهِ يَحْتَاجُ لِبَيَانِ نَاسِخِهِ وَأَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْمَنْسُوخِ، وَفِيهِ أَنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى الْمُتَأَخِّرِ. نَعَمْ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: