فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ، وَأَغْرَبَ مِيرَكُ حَيْثُ قَالَ: لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ صَارَ مَنْسُوخًا فِي أَوَاخِرِ زَمَانِهِ أَوْ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ انْتَهَى ; لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ النَّسْخُ فِي غَيْرِ زَمَانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَعَلَّ مُرَادَهُ ظُهُورُ نَسْخِهِ فِي زَمَنِ غَيْرِهِ، ثُمَّ الصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْجَزَرِيُّ فِي مِفْتَاحِ الْحِصْنِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ هُوَ الْأَوْلَى وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا جَازَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ فَقَدْ جَرَى عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْهُمُ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي أَوَّلِ صَحِيحِهِ وَهَلُمَّ جَرَّا، حَتَّى الْإِمَامِ وَلِيِّ اللَّهِ أَبِي الْقَاسِمِ الشَّاطِبِيِّ فِي قَصِيدَتِهِ الرَّائِيَةِ وَاللَّامِيَّةِ، وَأَمَّا قَوْلُ النَّوَوِيِّ: وَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ أَوْ مَنْ نَصَّ مِنْهُمْ عَلَى كَرَاهَةِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ السَّلَامِ ; فَلَيْسَ بِذَاكَ فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمُ. انْتَهَى، مَعَ أَنَّ مَفْهُومَ كَلَامِ النَّوَوِيِّ أَنَّ إِفْرَادَ السَّلَامِ عَنِ الصَّلَاةِ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: تَبِعَ الْمُصَنِّفُ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقَ الْأَقْدَمَ، فَإِنَّ السَّلَفَ كَانُوا لَمْ يَكُونُوا مُوَشِّحِينَ صُدُورَ الْكُتُبِ وَالرَّسَائِلِ بِالصَّلَاةِ ; فَإِنَّهُ أَمْرٌ حَدَثَ فِي الْوِلَايَةِ الْهَاشِمِيَّةِ إِلَّا أَنَّ الْأُمَّةَ لَمْ تُنْكِرْهَا وَعَمِلُوا بِهَا عَلَى مَا فِي الشِّفَاءِ، ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ أَنَّ كَرَاهَةَ الْإِفْرَادِ بَيْنَهُمَا إِنَّمَا هُوَ فِي خُصُوصِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) مَعَ أَنَّ الْوَاوَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ فَلَا يَلْزَمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي كُلِّ مَرْتَبَةٍ مِنَ الْمَرَاتِبِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُهُ فِي الْأَذْكَارِ: إِذَا صَلَّيْتَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْتَجْمَعْ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ وَلَا تَقْتَصِرْ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَإِفْرَادُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ مَكْرُوهٌ فَلَا تَقُلْ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فَقَطْ، وَلَا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَطْ، انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ مِنْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصَلَّى عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ يُسَلَّمَ عَلَيْهِمُ اسْتِقْلَالًا أَوْ لَا يَجُوزُ ; فَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ وَكَرِهَهُ بَعْضُهُمْ، وَأَمَّا مَنْ صَلَّى وَسَلَّمَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: الْمُخْتَارُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالسَّلَامَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَآلِ النَّبِيِّ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَأَهْلِ الطَّاعَةِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ جَائِزٌ عِنْدَ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ وَيُكْرَهُ فِي غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ بِشَخْصٍ مُفْرَدٍ بِحَيْثُ يَصِيرُ شِعَارًا وَلَا سِيَّمَا إِذَا تُرِكَ فِي حَقِّ مِثْلِهِ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُ، فَلَوِ اتَّفَقَ وُقُوعُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحَايِينِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُتَّخَذَ شِعَارًا لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَمِنْهَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ الْمُصَنِّفَ جَعَلَ غَيْرَ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا لَهُمْ فِي السَّلَامِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْفِقْهِ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ ; إِذْ عَدَمُ الْجَوَازِ عِنْدَ الْبَعْضِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِمِ اسْتِقْلَالًا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ فِي ضِمْنِ الْأَنْبِيَاءِ
مَذْكُورُونَ عَلَى سَبِيلِ الْغَلَبَةِ وَالتَّبَعِيَّةِ مَعَ أَنَّ الْآيَةَ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ عَلَيْهِ وَعَلَى ذَلِكَ الْبَعْضِ إِنْ أَرَادُوا الْإِطْلَاقَ.
وَمِنْهَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِعِبَادِهِ هُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَهُوَ مَرْدُودٌ لِاتِّفَاقِ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ خُصُوصُ الْمُرْسَلِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) ، أَوْ عُمُومُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) .
وَمِنْهَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ: " كُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَشَهُّدٌ فَهِيَ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ "، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَالْمُؤَلِّفُ فِي جَامِعِهِ، فَقِيلَ لَعَلَّهُ تَشَهَّدَ نُطْقًا وَلَمْ يَكْتُبْهُ اخْتِصَارًا، وَقِيلَ لَعَلَّهُ تَرَكَهُ إِيمَاءً إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ أَوْ مَحْمُولٌ عِنْدَهُ عَلَى خُطْبَةِ النِّكَاحِ، وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ التُّورِبِشْتِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّشَهُّدِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْحَمْدُ وَالثَّنَاءُ، وَأَمَّا قَوْلُ الْجَزَرِيِّ: وَالصَّوَابُ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الشَّهَادَتَيْنِ لِمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: " كُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا شَهَادَةٌ فَهِيَ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ "، وَكَذَا تَصْرِيحُ الْعَسْقَلَانِيِّ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الشَّهَادَتَانِ فَلَا يُنَافِي التَّأْوِيلَ الْمَذْكُورَ ; إِذْ مُرَادُهُ أَنَّ التَّشَهُّدَ هُوَ الْإِتْيَانُ بِكَلِمَتَيِ الشَّهَادَةِ، وَسُمِّيَ تَشَهُّدُ الصَّلَاةِ تَشَهُّدًا لِتَضَمُّنِهِ إِيَّاهُمَا، لَكِنِ اتُّسِعَ فِيهِ فَاسْتُعْمِلَ فِي الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْحَمْدِ لَهُ، وَأَمَّا اعْتِرَاضُ شَارِحٍ بِأَنَّ ارْتِكَابَ الْمَجَازِ بِلَا قَرِينَةٍ صَارِفَةٍ عَنِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ غَيْرُ مَقْبُولٍ ; فَهُوَ صَحِيحٌ مَنْقُولٌ لَكِنَّهُ لَمَّا تَرَكَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ الْمُصَنِّفِينَ الْعَمَلَ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ دَلَّ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَهُ غَيْرُ مُرَادٍ فَيُؤَوَّلُ بِأَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ تُحْمَلَ الْخُطْبَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الْخُطَبِ الْمُتَعَارِفَةِ فِي زَمَانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامَ الْجُمُعَةِ وَالْأَعْيَادِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّ التَّصْنِيفَ حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ الشُّرَّاحُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ الَّذِينَ اصْطَفَى فِي مَحَلِّ جَرٍّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ أَوْ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَوْ نَصْبٍ عَلَى الْمَدْحِ، ثُمَّ جُمْلَةُ (سَلَامٌ) مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا إِجْمَالِيًّا وَإِنْشَاءً دُعَائِيًّا وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إِخْبَارٌ مُتَضَمِّنٌ لِلْإِنْشَاءِ، وَلَمَّا كَانَ عِنْدَ ذِكْرِ الصَّالِحِينَ تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ وَتَكْثُرُ الْبَرَكَةُ وَهَذَا الْكِتَابُ بِكَمَالِهِ مَخْصُوصٌ بِنُعُوتِ جَمَالِهِ