فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لِلنَّفْعِ وَعَلَى لِلضُّرِّ، مَعَ أَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْأَصْحَابِ لَيْسَتْ لِلضَّرَرِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ) نَعَمِ، الِاقْتِصَارُ فِي الْهَدِيَّةِ عَلَى خِطَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْمِيمِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي الصَّدَقَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْقَصْدَ هُوَ التَّقَرُّبُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مُشَارَكَةٍ لِأَحَدٍ فِيهِ، وَأَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الْأَصْحَابِ مُشَارِكٌ لَهُ فِيمَا هُوَ الْغَرَضُ مِنَ الصَّدَقَةِ تَبَعًا لَهُ لَوْ جَازَتْ لَهُ. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ) : أَيْ بِطَرِيقِ الِانْبِسَاطِ. (ابْسُطُوا) : دَفْعًا لِوَهْمِهِمْ أَنَّ هَذِهِ مُخْتَصَّةٌ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا، وَإِشَارَةٌ إِلَى حُسْنِ الْآدَابِ مَعَ الْخَدَمِ وَالْأَصْحَابِ إِظْهَارًا لِمَا أَعْطَاهُ مِنَ الْخُلُقِ الْعَظِيمِ وَالْكَرْمِ الْعَمِيمِ، وَهُوَ أَمْرٌ مِنَ الْبَسْطِ بِالْمُوَحَّدَةِ وَالْمُهْمَلَتَيْنِ مِنْ حَدِّ «نَصَرَ» عَلَى مَا ضُبِطَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، وَمَعْنَاهُ أَوْصِلُوا أَيْدِيَكُمْ إِلَى هَذِهِ الْمَائِدَةِ وَكُلُوا مِنْهَا مَعَنَا، فَبَسْطُ الْيَدِ كِنَايَةٌ عَنْ إِيصَالِهَا إِلَى الشَّيْءِ، وَمِنْهُ: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ) فَأَيْدِيكُمْ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ أَوْ مِنَ الْبَسْطِ بِمَعْنَى النَّشْرِ أَيِ انْشُرُوا الطَّعَامَ فِي الْمَجْلِسِ بِحَيْثُ يَصِلُ إِلَيْهِ يَدُ كُلِّ وَاحِدٍ أَوِ اقْسِمُوا هَذِهِ الْهَدِيَّةَ بَيْنَكُمْ، أَوْ مَعْنَاهُ انْبَسِطُوا مِنْ سَلْمَانَ وَاسْتَبْشِرُوا بِقُدُومِهِ تَلَطُّفًا لَهُ وَتَطْيِيبًا لِقَلْبِهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: لِيَكُنْ وَجْهُكَ بَسْطًا أَيْ مُنْبَسِطًا، وَمِنْهُ حَدِيثُ فَاطِمَةَ: «يَبْسُطُنِي مَا يَبْسُطُهَا» أَيْ يَسُرُّنِي مَا يَسُرُّهَا ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا سُرَّ انْبَسَطَ وَجْهُهُ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ «انْشَطُوا» بِالنُّونِ ثُمَّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ الْمَضْمُومَةِ أَوِ الْمَفْتُوحَةِ بَعْدَهَا طَاءٌ مُهْمَلَةٌ، فَيَكُونُ مِنَ النَّشَاطِ قَرِيبًا مِنَ الِانْبِسَاطِ أَيْ: كُونُوا ذَا نَشَاطٍ لِلْأَكْلِ مَعِي، وَبِهِ صَحَّحَهُ بَعْضُهُمْ بِكَسْرِ الْهَمْزِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ حَدِّ «ضَرَبَ» ، وَيُقَالُ فِي مَعْنَاهُ افْتَحُوا الْعُقْدَةَ، وَلَعَلَّ مَائِدَةَ سَلْمَانَ كَانَتْ فِي لِفَافَةٍ مَعْقُودَةٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا هَذِهِ؟» ، وَلَا يُشْكِلُ بِمَا فِي النِّهَايَةِ، يُقَالُ: نَشَطْتُ الْعُقْدَةَ إِذَا عَقَدْتُهَا وَأَنْشَطْتُهَا إِذَا حَلَلْتُهَا ; لِمَا فِي التَّاجِ أَنَّهُ مِنَ الْأَضْدَادِ وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ نَصَرَ وَمَصْدَرُهُ الْأُنْشُوطَةُ، وَصَحَّحَهُ بَعْضُهُمْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الشِّينِ مِنَ الْإِنْشَاطِ وَهُوَ الْحَلُّ، وَفِي قَلِيلٍ مِنَ النُّسَخِ: انْشَقُّوا، بِالنُّونِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْقَافِ الْمُشَدَّدَةِ مِنَ الِانْشِقَاقِ بِمَعْنَى الِانْفِرَاجِ وَالتَّفَرُّقِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُمْ بِالِانْشِقَاقِ لِيَدْنُوَ سَلْمَانُ، وَيَقْرُبَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ يَجْلِسَ فِيمَا بَيْنَهُمْ. هَذَا وَفِي الْحَدِيثِ قَبُولُ الْهَدِيَّةِ مِمَّنْ يَدَّعِي أَنَّهَا مِلْكُهُ اعْتِمَادًا عَلَى مُجَرَّدِ ظَاهِرِ الْحَالِ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ عَنْ بَاطِنِ الْأَمْرِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَعَلَّ سَلْمَانَ كَانَ مَأْذُونًا فِي ذَلِكَ مِنْ مَالِكِهِ، وَفِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُهْدَى لَهُ أَنْ يَعُمَّ الْحَاضِرِينَ مِمَّا أُهْدِيَ إِلَيْهِ، وَحَدِيثُ: «مَنْ أُهْدِيَ لَهُ هَدِيَّةٌ فَجُلَسَاؤُهُ شُرَكَاؤُهُ فِيهَا» وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا كَمَا قَالَهُ مِيرَكُ مُؤَيِّدٌ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي الْأُصُولِ: الْمُرَادُ بِهِمُ الَّذِينَ يُدَاوِمُونَ مَجْلِسَهُ وَيَعْتَكِفُونَ بَابَهُ وَيَتَفَقَّدُونَ أُمُورَهُ لَا كُلُّ مَنْ كَانَ جَالِسًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، انْتَهَى. وَأَمَّا مَا اشْتُهِرَ عَلَى الْأَلْسِنَةِ أَنَّ الْهَدَايَا مُشْتَرَكٌ فَلَيْسَ لِلَفْظِهِ أَصْلٌ، وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي مَعْنَى الضَّعِيفِ، وَوَقَعَ لِبَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ أُتِيَ بِهَدِيَّةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ دَنَانِيرَ وَدَرَاهِمَ جَسِيمَةٍ، وَكَانَ عِنْدَهُ فَقِيرٌ مُسَافِرٌ فَقَالَ: يَا مَوْلَانَا، الْهَدَايَا مُشْتَرَكٌ، فَقَالَ الشَّيْخُ بِلِسَانِهِ أَمَاتَنْهَا خُوشْتَرْكْ أَيْ الِانْفِرَادُ أَحْسَنُ، فَظَنَّ الْفَقِيرُ أَنَّهُ يُرِيدُ الِانْفِرَادَ
لِنَفْسِهِ فَتَغَيَّرَ حَالُهُ، فَقَالَ الشَّيْخُ: لَكَ تَنْهَا خُوشْتَرْكْ، فَشَرَعَ فِي أَخْذِهِ، فَعَجَزَ عَنْ حَمْلِهِ وَحْدَهُ، فَأَشَارَ الشَّيْخُ إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ بِمُعَاوَنَتِهِ. وَمِنَ اللَّطَائِفِ أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا يُوسُفَ أُتِيَ بِهَدِيَّةٍ مِنَ النُّقُودِ فَقِيلَ لَهُ: الْهَدَايَا مُشْتَرَكٌ، فَقَالَ: اللَّامُ لِلْعَهْدِ ; أَيْ: الْهَدَايَا مِنَ الرُّطَبِ وَالزَّبِيبِ وَأَمْثَالِهَا، فَانْظُرِ الْفَرْقَ الْبَيِّنَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. (ثُمَّ نَظَرَ إِلَى الْخَاتَمِ) : بِالْفَتْحِ وَيُكْسَرُ. (عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) : هَذَا دَلِيلُ التَّرْجَمَةِ، وَأَتَى بِثُمَّ الدَّالَّةَ عَلَى التَّرَاخِي لِمَا فِي كُتُبِ السِّيَرِ أَنَّ سَلْمَانَ لَبِثَ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْتَظِرُ رُؤْيَةَ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ الَّتِي أَخْبَرَهُ عَنْهَا آخِرُ مَشَايِخِهِ، أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَبِيبٌ عَنْ قَرِيبٍ وَمِنْ عَلَامَاتِهِ الْقَاطِعَةِ عَلَى أَنَّهُ هُوَ النَّبِيُّ الْمَوْعُودُ الَّذِي خُتِمَ بِهِ النُّبُوَّةِ أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلِ الصَّدَقَةَ وَيَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ، وَبَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ، فَلَمَّا شَاهَدَ سَلْمَانُ الْعَلَامَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ انْتَظَرَ الْآيَةَ الثَّالِثَةَ إِلَى أَنْ مَاتَ وَاحِدٌ مِنْ نُقَبَاءَ الْأَنْصَارِ فَشَيَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَنَازَتَهُ، وَذَهَبَ مَعَهَا إِلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، وَجَلَسَ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ يَنْتَظِرُ دَفْنَهُ، فَجَاءَ سَلْمَانُ وَاسْتَدَارَ خَلْفَهُ لِيَنْظُرَ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِدْبَارَهُ عَرَفَ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَثْبِتَ شَيْئًا وُصِفَ لَهُ، فَأَلْقَى الرِّدَاءَ عَنْ ظَهْرِهِ فَنَظَرَ سَلْمَانُ إِلَى الْخَاتَمِ. (فَآمَنَ بِهِ) : بِلَا تَرَاخٍ وَمُهْلَةٍ لَمَّا رَأَى مِنَ انْطِبَاقِ أَوْصَافِهِ الْمَذْكُورَةِ فِي