أَيْضًا، قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ حَرَكَتُهُ لِغَايَةِ ارْتِيَاحِهِ بِمُوَاصَلَةِ رُوحِهِ إِلَيْهِ أَوْ لِغَايَةِ حُزْنِهِ بِفِرَاقِهِ عَلَيْهِ، وَلَا اسْتِبْعَادَ فِي ارْتِيَاحِهِ مَا لَا رُوحَ لَهُ وَحُزْنُهُ كَمَا لَا اسْتِبْعَادَ فِي تَكَلُّمِ الْجَمَادِ مِنْ تَسْبِيحِ الْحَصَى وَحَنِينِ الْجِذْعِ وَنَحْوِهِمَا ; لِأَنَّ مَبْنَى أُمُورِ الْآخِرَةِ عَلَى خَرْقِ الْعَادَةِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ الْجَمَادَاتِ فِي الدُّنْيَا: (وَإِنَّ مِنْهَا) أَيْ مِنَ الْحِجَارَةِ (لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ «اهْتَزَّ

الْعَرْشُ فَرَحًا» ، أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَتَأَوَّلَهُ فَقَالَ: «اهْتَزَّ الْعَرْشُ فَرَحًا بِلِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى سَعْدًا» ، وَاخْتَارَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ حَرَكَةُ أَهْلِ الْعَرْشِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَاسْتِبْشَارُهُمْ بِقُدُومِ رُوحِهِ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ أَوْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِ كَقَوْلِهِ: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ: «مَنْ هَذَا الْمَيِّتُ الَّذِي فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَاسْتَبْشَرَ بِهِ أَهْلُهَا وَحَرَّكَتْهُمْ» إِمَّا لِمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْ لِلنُّزُولِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ لِيُصَلُّوا عَلَيْهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: هَذَا الَّذِي تَحَرَّكَ لَهُ الْعَرْشُ وَفُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَشَهِدَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا، لَقَدْ ضُمَّ ضَمَّةً ثُمَّ فُرِّجَ عَنْهُ، وَيُقَوِّيهِ مَا صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا حُمِلَتْ جَنَازَةُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ قَالَ الْمُنَافِقُونَ: مَا أَخَفَّ جَنَازَتَهُ! ! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَحْمِلُهُ» ، وَقِيلَ اهْتِزَازُ الْعَرْشِ: حَرَكَتُهُ، وَجُعِلَ عَلَامَةً لِلْمَلَائِكَةِ عَلَى مَوْتِهِ لِعُلُوِّ شَأْنِهِ وَسُمُوِّ مَكَانِهِ، وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَعْظِيمِ شَأْنِ وَفَاتِهِ، وَالْعَرَبُ تَنْسُبُ الشَّيْءَ الْمُعَظَّمَ إِلَى أَعْظَمِ الْأَشْيَاءِ فَيَقُولُ: أَظْلَمَتِ الْأَرْضُ لِمَوْتِ فُلَانٍ، وَقَامَتِ الْقِيَامَةُ لَهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ بَعِيدٌ عَنْ قَصْدِ الشَّارِعِ وَإِنْ قَالَ الْحَنَفِيُّ: إِنَّهُ كَلَامٌ حَسَنٌ، وَقِيلَ: الِاهْتِزَازُ فِي الْأَصْلِ الْحَرَكَةُ لَكِنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الِارْتِيَاحُ كِنَايَةً أَيِ ارْتَاحَ بِرُوحِهِ حِينَ صَعِدَ بِهِ لِكَرَامَتِهِ عَلَى رَبِّهِ فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ حَدِيثِ: «أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ بِلَفْظِ «اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» ، وَرُوِيَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّهُ تَأَوَّلَهُ بِالسَّرِيرِ الَّذِي حُمِلَ عَلَيْهِ سَعْدٌ، يَعْنِي جَنَازَتَهُ وَنَعْشَهُ، فَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ جَابِرٍ، وَفِيهِ قَالَ رَجُلٌ لِجَابِرٍ: فَإِنَّ الْبَرَاءَ يَقُولُ اهْتَزَّ السَّرِيرُ فَقَالَ جَابِرٌ: إِنَّهُ بَيْنَ الْحَيَّيْنِ ضَغَائِنُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ جَابِرٌ لِأَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ كَانَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْبَرَاءَ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَالْخَزْرَجُ لَا يَقُولُ لِلْأَوْسِ بِالْفَضْلِ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: هَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ، فَإِنَّ الْبَرَاءَ أَيْضًا أَوْسِيٌّ، وَإِنَّمَا قَالَ جَابِرٌ ذَلِكَ إِظْهَارًا لِلْحَقِّ وَاعْتِرَافًا بِالْفَضْلِ لِأَهْلِهِ فَكَأَنَّهُ تَعَجَّبَ مِنَ الْبَرَاءِ كَيْفَ قَالَ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ أَوْسِيٌّ، ثُمَّ قَالَ: وَأَنَا وَإِنْ كُنْتُ خَزْرَجِيًّا وَكَانَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ مَا كَانَ لَمْ يَمْنَعْنِي مِنْ ذَلِكَ أَنْ أَقُولَ الْحَقَّ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِلَفْظِ «اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ» بِإِضَافَةِ الْعَرْشِ إِلَى الرَّحْمَنِ، وَالْعُذْرُ لِلْبَرَاءِ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ تَغْطِيَةَ فَضْلِ سَعْدٍ وَإِنَّمَا بَلَغَ الْحَدِيثُ إِلَيْهِ بِلَفْظِ «اهْتَزَّ الْعَرْشُ» وَفَهِمَ مِنْهُ ذَلِكَ فَجَزَمَ بِهِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَلِيقُ أَنْ يُظَنَّ بِهِ لَا كَمَا فَهِمَهُ الْخَطَّابِيُّ أَنَّهُ قَالَ لِلْعَصَبِيَّةِ لِمَا بَيْنَ الْحَيَّيْنِ مِنَ الضَّغَائِنِ، وَقَدْ تَأَوَّلَهُ ابْنُ عُمَرَ أَيْضًا بِمِثْلِ مَا تَأَوَّلَهُ الْبَرَاءُ، وَقَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَجَزَمَ بِأَنَّهُ اهْتَزَّ لَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَقَدْ جَاءَ حَدِيثُ «اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدٍ» عَنْ عَشَرَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، قَالَ الْحَاكِمُ: الْأَحَادِيثُ الْمُصَرِّحَةُ بِاهْتِزَازِ عَرْشِ الرَّحْمَنِ مُخَرَّجَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَيْسَ لِمُعَارِضِهَا ذِكْرٌ فِي الصَّحِيحِ.

(حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ) : بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ فَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ. (الضَّبِّيُّ) : بِفَتْحِ مُعْجَمَةٍ وَتَشْدِيدِ مُوَحَّدَةٍ. (وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) : بِضَمِّ جِيمٍ فَسُكُونِ حَاءٍ. (وَغَيْرُ وَاحِدٍ) : هَذَا الْعَطْفُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ

شَيْخُ الْمُصَنِّفِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ سِوَى أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَةَ وَعَلِيِّ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015