الْمُوجِبُ لَهَا إِذْلَالُ النَّفْسِ عَنْ إِعْجَابِهَا، وَغُرُورِهَا وَحِجَابِهَا وَرَدِّهَا إِلَى أَصْلِهَا
حَيَاةً وَفَضْلِهَا مَمَاتًا، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ، وَمَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ، فَلِذَا رَفَعَهُ سَيِّدُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَأَخَذَهُ بِيَدِهِ وَنَفَّضَ عَنْهُ التُّرَابَ، وَلَقَّبَهُ وَكَنَّاهُ بِهِ تَذْكِرَةً لِلْحَالَةِ الْحَسَنَةِ وَالْخَصْلَةِ الْمُسْتَحْسَنَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي غَايَةٍ مِنَ التَّحْقِيقِ، وَنِهَايَةٍ مِنَ التَّدْقِيقِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ دُونَ الْمُتَعَسِّفِ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا الْمَقَامَ، وَيَزِيدُ الْوُضُوحَ فِي الْمَرَامِ بَقِيَّةُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ الْأَعْلَامُ.
مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ نُمَيْرٍ عَنْ هِشَامٍ بِلَفْظِ كَانَ ضِجَاعُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَدَمًا حَشْوُهُ لِيفٌ، وَالضِّجَاعُ بِكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَهَا جِيمٌ مَا يُرْقَدُ عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا مَا فِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقَدَ عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ مُرَقَّعَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ.
وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ فَرَأَتْ فِرَاشَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبَاءَةً مَثْنِيَّةً فَبَعَثَتْ إِلَيَّ بِفِرَاشٍ حَشْوُهُ صُوفٌ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَآهُ فَقَالَ: رُدِّيهِ يَا عَائِشَةُ وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُ أَجْرَى اللَّهُ مَعِي جِبَالَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي أَخْلَاقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ دَخَلَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَرَأَتْ فِرَاشَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبَاءَةً مَثْنِيَّةً فَانْطَلَقَتْ، وَبَعَثَتْ إِلَيَّ بِفِرَاشٍ فِيهِ صُوفٌ فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا هَذَا قُلْتُ أَنَّ فُلَانَةَ الْأَنْصَارِيَّةَ دَخَلَتْ عَلَيَّ فَرَأَتْ فِرَاشَكَ فَبَعَثَتْ إِلَيَّ بِهَذَا، فَقَالَ: رُدِّيهِ فَأَبَيْتُ فَلَمْ أَرُدَّهُ وَأَعْجَبَنِي أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِي قَالَتْ: حَتَّى قَالَ لِي ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ: رُدِّيهِ يَا عَائِشَةُ، فَوَاللَّهِ لَوْ شِئْتُ لَأَجْرَى اللَّهُ لِي جِبَالَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، قَالَتْ: فَرَدَدْتُهُ.
وَمِنْهَا مَا وَرَدَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ اضْطَجَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى حَصِيرٍ فَأَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَقِيلَ لَهُ أَلَا نَأْتِيَكَ بِشَيْءٍ يَقِيكَ مِنْهُ فَقَالَ: مَا لِي وَالدُّنْيَا إِنَّمَا أَنَا وَالدُّنْيَا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا.
وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ لَفْظَهُ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تُؤْذِنُنَا نَبْسُطُ تَحْتَكَ أَلْيَنَ مِنْهُ فَقَالَ مَا لِي وَلِلدُّنْيَا إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رَاكِبٍ سَارَ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ فَقَالَ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا
وَمِنْهَا مَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جِئْتُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَشْرُبَةٍ أَيْ: غُرْفَةٍ وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُوبًا أَيْ مَا يُدْبَغُ وَعِنْدَ رَأْسِهِ أُهُبٌ مُعَلَّقَةٌ أَيْ: جُلُودٌ فَبَكَيْتُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمَا الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْبَغَوِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ الْأَخِيرَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ أَيْضًا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أُولَئِكَ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ، وَهِيَ وَسِيلَةُ الِانْقِطَاعِ، وَإِنَّا قَوْمٌ أُخِّرَتْ لَنَا طَيِّبَاتُنَا فِي آخِرَتِنَا، وَفِي رِوَايَةٍ بِزِيَادَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِزَارٌ، وَأَنَّهُ كَانَ مُضَطِّجِعًا عَلَى خَصَفَةٍ، وَأَنَّ بَعْضَهُ لَعَلَى التُّرَابِ وَلَمْ يَكُنْ بِهَا غَيْرُ
خَصَفَةٍ، وَوِسَادَةٍ مِنْ لِيفٍ، وَنَحْوَ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ.
وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غُرْفَةٍ كَأَنَّهَا بَيْتُ حَمَامٍ، وَهُوَ نَائِمٌ عَلَى حَصِيرٍ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَبَكَى، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كِسْرَى، وَقَيْصَرَ يَنَامُونَ عَلَى الدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ، وَأَنْتَ نَائِمٌ عَلَى هَذَا الْحَصِيرِ قَدْ أَثَّرَ بِجَنْبِكَ، فَقَالَ: لَا تَبْكِ، فَإِنَّ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ.
وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - دَخَلَا عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا هُوَ نَائِمٌ عَلَى سَرِيرٍ لَهُ مُزَمَّلٍ بِالْبَرْدِيِّ، وَهُوَ نَبْتٌ مَعْرُوفٌ عَلَيْهِ كِسَاءٌ أَسْوَدُ حَشْوُهُ بِالْبَرْدِيِّ فَلَمَّا رَآهُمَا اسْتَوَى جَالِسًا فَنَظَرَاهُ فَإِذَا أَثَرُ السَّرِيرِ فِي جَنْبِهِ فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُؤْذِيكَ خُشُونَةُ مَا نَرَى فِي فِرَاشِكَ وَسَرِيرِكَ، وَهَذَا كِسْرَى وَقَيْصَرُ عَلَى فِرَاشِ الْحَرِيرِ، وَالدِّيبَاجِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَقُولَا هَذَا، فَإِنَّ فِرَاشَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِي النَّارِ، وَإِنَّ فِرَاشِيَ، وَسَرِيرِيَ هَذَا عَاقِبَتُهُ إِلَى الْجَنَّةِ ثُمَّ رَأَيْتُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعُرْيَ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ، وَيَنَامُ عَلَى الْأَرْضِ وَيَجْلِسُ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ، الْحَدِيثَ، فَهَذَا أَصْلٌ أَصِيلٌ لِلْعِصَامِ، وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةً عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ فِي مَقَامِ الْمَرَامِ
(حَدَّثَنَا أَبُو الْخَطَّابِ زِيَادُ بْنُ يَحْيَى الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَيْمُونَ قَالَ: أَنْبَأَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ) أَيِ: الصَّادِقُ ابْنُ الْبَاقِرِ (عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ) قَالَ مِيرَكُ: فِي سَنَدِ هَذَا الْحَدِيثِ انْقِطَاعٌ لِأَنَّ الْبَاقِرَ لَمْ يَلْقَ عَائِشَةَ، وَلَا حَفْصَةَ فَإِنَّ وِلَادَتَهُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَمَاتَتْ عَائِشَةُ