وَتَرْكِ الْإِيثَارِ الَّذِي هُوَ اخْتِيَارُ الْأَبْرَارِ.
(حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ) اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عُمَرَ بْنِ دِرْهَمٍ (الزُّبَيْرِيُّ) بِالتَّصْغِيرِ (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) أَيِ الثَّوْرِيُّ عَلَى مَا فِي الْأَصْلِ الْمُصَحَّحِ
(عَنْ أَبِي هَاشِمٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رِيَاحٍ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَحْتِيَّةٍ (عَنْ رِيَاحِ بْنِ عَبِيدَةَ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ) أَيْ مِنْ أَكْلِ مَأْكُولِهِ الَّذِي كَانَ يَأْكُلُ مِنْهُ فِي بَيْتِهِ مَعَ أَهْلِهِ، أَوْ مَعَ أَضْيَافِهِ، أَوْ فِي مَنْزِلِ الْمُضِيفِ، عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْجَمْعِ الْآتِي، وَيُمْكِنُ أَنَّهُ لَمَّا شَارَكَ أُمَّتَهُ الضَّعِيفَةَ، مَعَ ذَاتِهِ الشَّرِيفَةِ (قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ) أَيْ مُوَحِّدِينَ مُنْقَادِينَ لِجَمِيعِ أُمُورِ الدِّينِ، قِيلَ: وَفَائِدَةُ إِيرَادِ الْحَمْدِ بَعْدَ الطَّعَامِ أَدَاءُ شُكْرِ الْمُنْعِمِ، وَطَلَبُ زِيَادَةِ النِّعْمَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ حَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ تَجَدُّدِ النِّعْمَةِ، فِي حُصُولِ مَا كَانَ الْإِنْسَانُ يَتَوَقَّعُ حُصُولَهُ، وَانْدِفَاعِ مَا كَانَ يَخَافُ وُقُوعَهُ.
ثُمَّ لَمَّا كَانَ بَاعِثُ الْحَمْدِ هُنَا هُوَ الطَّعَامُ، ذَكَرَهُ أَوَّلًا لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِهِ، وَكَانَ السَّقْيُ مِنْ تَتِمَّتِهِ؛ لِكَوْنِهِ مُقَارِنًا لَهُ فِي التَّحْقِيقِ غَالِبًا، ثُمَّ اسْتَطْرَدَ مَنْ ذَكَرَ النِّعَمَ الظَّاهِرَةَ إِلَى النِّعَمِ الْبَاطِنَةِ، فَذَكَرَ مَا هُوَ أَشْرَفُهَا، وَخَتَمَ بِهِ ; لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى حُسْنِ الْخَاتِمَةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى الِانْقِيَادِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِهِمَا، قَدْرًا وَوَصْفًا وَوَقْتًا وَاحْتِيَاجًا وَاسْتِغْنَاءً بِحَسَبِ مَا قُدِّرَ لَهُ وَقَضَاهُ.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ) يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الشَّامِيَّ الْكُلَاعِيَّ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ، قَالَ: لَقِيتُ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مِنْ ثِقَاتِ الشَّامِيِّينَ، مَاتَ بِطَرَسُوسَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رُفِعَتِ الْمَائِدَةُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) قَدْ فَسَّرُوا الْمَائِدَةَ بِأَنَّهَا خِوَانٌ عَلَيْهِ طَعَامٌ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ بِرِوَايَةِ أَنَسٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْكُلْ عَلَى خِوَانٍ قَطُّ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، فَقِيلَ: أَكَلَ عَلَيْهِ بَعْضَ الْأَحْيَانِ ; لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَأَنَّ أَنَسًا مَا رَأَى وَرَآهُ غَيْرُهُ، وَالْمُثْبَتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي أَوْ يُقَالُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْخِوَانِ مَا يَكُونُ بِخُصُوصِهِ وَالْمَائِدَةُ تُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَا يُوضَعُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ ; لِأَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ مَادَ يَمِيدُ إِذَا تَحَرَّكَ أَوْ أَطْعَمَ، وَلَا يَخْتَصُّ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَقَدْ تُطْلَقُ الْمَائِدَةُ وَيُرَادُ بِهَا نَفْسُ الطَّعَامِ أَوْ بَقِيَّتُهُ أَوْ إِنَاؤُهُ، فَيَكُونُ مُرَادُ أَبِي أُمَامَةَ إِذَا رُفِعَ مِنْ عِنْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا وُضِعَ عَلَيْهِ أَوْ بَقِيَّتُهُ (يَقُولُ) أَيْ رَافِعًا صَوْتَهُ إِذْ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالْحَمْدِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْأَكْلِ، إِذَا لَمْ يَفْرُغْ جُلَسَاؤُهُ، كَيْلَا يَكُونَ مَنْعًا لَهُمْ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أَيْ عَلَى ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْإِنْعَامُ بِالْإِطْعَامِ (حَمْدًا) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِلْحَمْدِ، إِمَّا بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ أَوْ بِاعْتِبَارِ تَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْفِعْلِ، أَوْ لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ (كَثِيرًا) أَيْ لَا نِهَايَةَ لِحَمْدِهِ كَمَا لَا غَايَةَ لِنِعَمِهِ (طَيِّبًا)
أَيْ خَالِصًا مِنَ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ (مُبَارَكًا) هُوَ وَمَا قَبْلَهُ صِفَاتٌ لِحَمْدًا، وَقَوْلُهُ: (فِيهِ) ضَمِيرُهُ رَاجِعٌ إِلَى الْحَمْدِ أَيْ حَمْدًا ذَا بَرَكَةٍ دَائِمًا لَا يَنْقَطِعُ ; لِأَنَّ نِعَمَهُ لَا تَنْقَطِعُ عَنَّا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَمْدُنَا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ أَيْضًا، وَلَوْ نِيَّةً وَاعْتِقَادًا (غَيْرَ مُوَدَّعٍ) بِنَصْبِ غَيْرِ فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ اللَّهِ، أَوْ مِنَ الْحَمْدِ وَهُوَ الْأَقْرَبُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِرَفْعِهِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ هُوَ، وَمُوَدَّعٍ بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ، أَيْ غَيْرَ مَتْرُوكِ الطَّلَبِ وَالرَّغْبَةِ فِيمَا عِنْدَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ أَيْ مَا تَرَكَكَ، قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِكَسْرِ الدَّالِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الْقَائِلِ، أَيْ غَيْرَ تَارِكِ الْحَمْدِ أَوْ تَارِكِ الطَّلَبِ